لعنة الشجاعة و فضيلة النفاق / الولي ولد سيدي هيبه

alt"قصة من وحي الإعلام الملتزم بقضايا الأمة و ضرورة تتبع سلوكيات

أولي أمرها بكل صورها و تجلياتها"

لم يتذكر "ضعيف" أنه رأى ر يوما وجه ذالك الشيخ الوقور الجالس في هذا المكان على رصيف  الطريق بالقرب الملامس بحميمية الجوار لبيته و هو الذي يعبر منه خلال كل أيام الأسبوع  الوظيفي ذهابا و إيابا، منذ عشرين عاما، إلى مقر عمله في إحدى إدارات الضرائب القديمة حيث يعمل موظفا بسيطا لا يريد في الأرض علوا و لا فسادا.

رآه جالسا في هدوء وضعية "اليوغا التأملية " و كأنه يملك المكان منذ زمن بعيد... شيخ هرم، نحيف الجسم غائر النظرات عميقها... بطيء الحركات دقيقها... كث اللحية أبيض شعرها المرسل... توجس منه خيفة فسمى الله و ابتلع ريق البسملة ثم مضى.

في نهاية دوامه الاعتيادي عند الزوال و هو عائد إلى بيته رأى الشيخ جالسا في نفس المكان في ذات الوضعية و أمامه الكثير من الصرر و الملفوفات، فعرج عليه و حياه تحية تليق بسنه ثم بادره سائلا:

ـ منذ متى و أنت هنا أيها الشيخ الوقور؟

أجاب الشيخ على الفور:

ـ أنا هنا منذ زمن بعيد يا ولدي... ربما من قبل... أن ترى النور.

ـ إنه أمر عجيب... أنا أسكن هذا الحي منذ عشرين عاما... من هنا تبدأ و تمر طريقي الوحيدة المؤدية إلى مقر خدمتي حيث أعمل موظفا منذ دلك الوقت... فكيف لم يحدث أن رأيتك كل هذا الوقت الطويل فأسلم عليك و أدعوك حتى إلى البيت و لو مرة واحدة؟

قال الشيخ:

ـ لم العجب و تلك مشيئة الله.

ـ صدقت و نعم المولى الفعال لما يريد... ماذا تبيع أيها الشيخ الوقور؟

ـ أبيع كل الخصال يا ولدي...

ـ كل الخصال؟ كيف ذلك؟

ـ اختر من هذه الصرر و أنا أقول لك ما هو المسحوق الذي تحويه.

ـ بلى.. أريد هذه.

ـ آه بني لقد اخترت الشجاعة... هل فعلا هذا ما تريده... أن تكون شجاعا بهذا العمر و في هذا الزمان؟

ـ لا بأس أبتي، دعني أجرب صفة لم أتحل بها يوما... بما يكفي... على الأقل.

ـ لك ذلك يا ولدي... قدر الكمية التي تريد؟

ـ أقل ما يمكن حتى أرى أي منقلب سأنقلب.

- ما دام الأمر كذلك خذ هذه الصرة... إنها جرعة واحدة تضعها في قليل من الماء عند الصباح قبل الذهاب إلى العمل.

ـ شكرا أبى... سأوافيك عند نهاية الدوام بما يكون إن شاء الله من أمري.

 

في اليوم الموالي استيقظ «بسيط" كالعادة عند أولى خيوط الصباح الباكر و بعد الصلاة تناول فطوره مع الجرعة التي أعطاه  الشيخ ثم غادر البيت إلى مقر عمله حيث وصل كالعادة قبل كل الموظفين و العمال... جلس على مكتبه و أخذ يراجع ملفاته باجتهاده المألوف حتى وقف عليه رئيسه و كالعادة دون أن يسلم عليه أمره بطلب الفطور و تقديم الشاي و "الزريق".

و كم كانت مفاجأة الرئيس كبيرة حينما أكب "بسيط" وجهه في وجهه و رد عليه بحدة و في جرأة نادرٍة:

ـ اطلب الأمر إلى أصحابه.. أنا لست فراشا بل موظف له وزنه و اعتباره في هذه المؤسسة.

رجع الرئيس و قد أخذ منه الغضب كل مأخذ و دون تردد أرسل إنذارا شديد اللهجة إلى "بسيط"... و ما كان من هذا الأخير الواقع تحت تأثير مفعول الشجاعة إلا أن مزق الإنذار و توعد رئيسه بالضرب المبرح.

انتهى وقت الدوام فعاد "البسيط" إلى بيته و قد خفت وطأة الجرعة، فأخبر الشيخ بما كان و الحسرة تأكله خوفا على وظيفته.

ربت الشيخ على كتفه و قال:

ـ لا تقلق يا ولدي ...لمعالجة هذا الأمر أنصحك بتناول جرعة كبيرة من مسحوق النفاق فقد حضرتها لك... إني على يقين أن ذلك سيداوي الأمر الذي كان و يرد الأمور إلى مجاريها الطبيعية... من يدري... فقد يرفعك الأمر في دائرة شغلك و تسير سفينتك بما تشتهي رياح أمانيك الرابضة بداخلك.

أخذ "بسيط" البائس جرعة كبيرة من مسحوق النفاق و رجع إلى بيته مكسور الخاطر نادما على ما بدر منه و مطأطئ الرأس خجلا من نفسه الأمارة و بحدثها قائلا إن التمني رأس مال المفلس.

بات "بسيط" يتقلب في فراشه يمينا و شمالا فيما لم يغمض له جفن لحظة إلا و أيقظته فيها الكوابيس.

و في الصباح الباكر وثب كالملسوع من فوق فراشه وتناول قبل كل شيء جرعة النفاق "المغلظة" التي أعطاه إياها الشيخ العجيب ثم انطلق بسرعة إلى مقر عمله. و في الطريق أحس أنه كالريشة في مهب الريح.

فتح مكتب رئيسه و نظفه و انتظر حتى قدم إليه فأخذ يمسح المقعد بثوبه و ينحني له إلى حد ملامسة أحذيته ثم قبل يديه و هرع إلى مكتب الفراش و حضر الشاي و القهوة و جاء باللبن و الخبز والمربى و الماء البارد.

و لما انتهى وقت الدوام عاد " ضعيف " كالريشة المحررة إلى بيته. في الطريق مر بالشيخ الذي وجده على أهبة مغادرة المكان فابتاع منه في صمت كل ما لديه من مسحوق النفاق العجيب.

بعد شهر واحد على تلك الانحناءة البهلوانية التي أوصلت شفتيه حد لعق الحذاءين، تم تعيين "بسيط" رئيسا لتك المصلحة تم مديرا عاما ثم مستشارا للوزير.

و ها هي بعض التكهنات تتردد باضطراد في هذه الأيام بين مرتادي أكثر صالونات العاصمة سخونة  بأن "بسيط" مرشح لتقلد منصب وزير ربما في الحكومة المقبلة...  

27. أبريل 2013 - 23:04

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا