فى يوم هادئ وطقس معتدل وعلى جَنبات رصيف ضاحية من ضواحي الجنوب المَدْريدِي،خصوصا قرية San Martín De la Vega ،حيث أقطن منذ زمن؛ كنت أَتَرَجَل مع ضيف قادم من أَرْوِقَةِ أنواكشوط ،نتجاذب أطراف الحديث ونجوب مَمَرًا أخضَرَ يشق المدينة وتستخدمه المَارّة للتّنفيس وممارسة رياضة المشي ، إِذْ لا أُنكر أنّني كلما تَنَسَمْت أَرِيجَ وعبير أزهار الرّبيع ،تذكرت أبيات إبن زيدون الاندلسي:
وللنّسيم إعتلال فى أصائله كأنّه رقّ لي فأعتلّ إشفاقا
نلهو بما يَسْتَمِيلُ العين من زَهَرٍ جَالَ النّدى فيه حتى مَالَ أعناقا
مع نشوة الهواء الطّلق وزَهْو ألوان المكان ،بادرني الضّيف قائلا: لماذا لا نمتلك على الأقل فى أنواكشوط مَمَرات ومنتزهات كهذه ؟ هل يمكن إِسْتِعَاضَة هذه الحكومة بتلك التي تحكمنا ؟ هذا التّساؤل جذبني وخصوصا أنّنا نعيش أجواء إنتخابات محمومة على مستوى البلديات والبرلمان والمجالس الجهوية!!! لقد كان إشكالًا وجيها ويَنُم عن غيرة على الوطن الذى يَحُزّ فينا ما وصل اليه من تردي الاوضاع وغياب البنية التحتية الأساسية لكرامة الانسان حيث لم يَعُد من اللائق بِنَا كأمة ،إفْتِقَارُنا لأبسط مقومات الحياة الكريمة!!! طبعا وبرغبة عارمة حاولت سَبْرَ الموضوع وتوضيح بعض الملابسات إِذْ أنَّ المرحلة المتقدمة التى وصلت اليها الدّول الغربية ،لم تأتِ طفرة واحدة بل جاءت كنتيجة حتمية وسَيْرُورة تاريخية بدأت من نظام الإقطاع وجُور الكنيسة وسلطة الملوك والنبلاء وطبقة البورجوازية الى البيروقراطية الحديثة والنهضة الفكرية الفاصلة التى إنبثقت من الأدب والثقافة الإغريقية والرومانية ومن تطوير التّراث ومراجعة الدّين المسيحي (أصبحت العقيدة تخص الأفراد وليست للملك أو الدّولة)، زِدْ على ذلك الحروب والمجاعات والأمراض والأوبئة التى ضربت القارة…هذا الخليط من العوامل تَضَافَرَ لِيَتَبَلْوَرَ وَعْيًا تَرَاكُمِيًا بِضرورة قِيَام دولة المؤسسات والمواطنة والقانون والعدل والحريات والمساواة وتشييد الصروح والبنى التحتية التى تخدم حجر الأساس فى البناء الحضاري ،ألا وهو الإنسان..هذا المخاض العسير هو الذي أفرز إلى الوجود هذا النّموذج الغربي الفريد الذى بَهَرَ ضَيفي…هذه معطيات داخلية ولا ننسى العامل الخارجي المتمثل فى إستعمار الشعوب والحصول على المواد الخام والذهب والثروات بالمجان وتسخيرها للنهوض بالصناعة والزراعة وخلق طبقات رأسمالية ومتوسطة ساهمت فى صَوْن هذا الرّقي ……..وبالرّجوع الى الشّأن المحلي فإنّ التّغيير يَمُر عبر بوّابات وسيناريوهات متعددة :
الأول: سيناريو التعليم والبعثات العلمية حيث أعتمدته بعض دول آسيا فى نهضتها وحتى الدول الأوربية .
الثّاني:سيناريو الإنقلابات وثورة العساكر حيث طغى على الحالة العامة فى جُلّ دول العالم الثالث وكان أداة لشرعنة الإستئثار بالسلطة وتكريس الظّاهرة الديكتاتورية والدولة الشّمولية مع وجود إستثناءات.
الثالث:الضغط الخارجي والمناخ الإقليمي حيث بات العالم قرية واحدة ،يتقاسم المصالح التجارية والإقتصادية والديبلوماسية الدَولية وتَمّ إستخدام البنوك والمؤسسات الدولية المانحة كأدوات ضغط لإقامة نُظُم ديمقراطية وكان الهدف دائما الحفاظ على المصالح القومية لتلك الجهات الخارجية لا حُبًا فى تأصيل ديمقراطية الحكم فى بلداننا….
قلت للضّيف أنّ كل هذه السيناريوهات تّم تجريبها بقصد أو بغير قصد فى بلاد شنقيط والنتيجة هي كما ترى :إنعدام البنية التحتية ،دونية الإنسان ،وتَرْذِيلِ كرامته….!!! لقد كان التّعليم عندنا راقيًا وتخرجت أجيال وطنية رائدة ولكن إشكالية التّعريب والظّاهرة الفرنكوفونية ،أَسْهَمَتَا فى خلق جِيلَيْن متناقضَيْن لا يلتقيان فى أَشَدِّ القضايا إلحاحًا (الوحدة الوطنية)ثم إنّ الأجيال العريضة من المُتَعَرِبِين حُرمت من التّوظيف والإندماج فى المؤسسات والإدارات الوطنية وأستأثرت الفئات الفرنكوفونية بتلك المكاسب فكانت النتيجة هجرة العقول والشباب الى الخليج وأوربا وأمريكا وأفريقيا..بحثًا عن المستقبل ،الامر الذى ألقى بظلاله القاتمة على مستقبل البلد الى يومنا هذا. !!!! وبخصوص الإنقلابات وهي الظاهرة التى جثمت على المشهد السياسي ،فإنّها كانت تدخلا سافرًا من المؤسسة العسكرية وتَحَيِيدًا لدورها هناك فى الثكنات وعلى الثغور ،لا فى قصور الرئاسة.!!!!! وعَوْدًا على بدء ،فإنّ سيناريو الأيدي الخارجية وتدخلاتها ،أَسْفَر عن ديموقراطية عقيمة لم تَتَرَبى جموع المواطنين على أبسط أَبْجَدِيَاتِها ،بل كانت شرعنة للإنفراد بالحكم وأضحت كعكة السلطة طعمًا سائغا للمتنفذين وأعوانهم ..فتبددت الآمال وقُتِلت روح الثورة فى القوى الحيّة بتسويق من بعض النّخب المثقفة والزّعامات القبلية والدينية ورَاكِبي تيّار الشّرائحية والتّفاوت الطبقي وقائمة مُمْتَدة من المُتَزَلّفين لسلطة المخزن ،ضاربين عرض الحائط بحجر الأساس ،ألا وهو الإنسان والحرية والكرامة والتعليم وخلق المؤسسات وتأصيل ثقافة القانون وتشييد البنى التحتية…!!!!!!! لقد كنت مسترسلا فى الجواب الى أن تذكرت كلمات منذ سنتين قالها صاحب تاكسي فى توجنين:(إنّنا لا نريد الحصول على السلطة ولكن نريد على الأقل تحقق قَدْر من البنية التحتية والمؤسسات التعليمة والصحية والأمن والعيش الكريم كباقي الشعوب فى العالم …كم من الديكتاتوريات حكمت بلدانها ولكن شَيَّدت صروحا معتبرة من البنية التحتية وقوة الإقتصاد…إنّنا نعيش النّقيض فى هذا البلد ،إنّها العَدَمية بكل تجلياتها..)….كان نقاشا جادًا وتكرر معي عدة مرات فى الشارع وفى مرافق الدولة مع بعض الموظفين وفى الأسواق وفى البورصات وحتى مع بعض الجنود حيث أنّ وَعْيَ ضرورة التغيير يتشكل فى كل فئات المجتمع وسيكون له تأثير كبير للخروج من التّيه الى آفاق واسعة من التّعمير والتّشييد بإرادة صادقة…فهل سيخرج هذا الوعي من طور السّباة لِيَكون الأمل المنشود نحو التّغيير فى هذه الدّيار؟…….إنّ الأمل فسحة كما يرى الشاعر والوزير الطّغرائي:
أُعَلل النّفس بالآمال أَرْقُبُها
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل .
ولكن هل تنامي الشّعور هذا نحو التغيير الذي لاحت بوادره فى كل الفئات الشعبية والقطاعات الحكومية والذى لا تخلو ا حتى البُيُوتَات من نقاشه ….هل سيؤول وعيًا مُنْجَزًا على أرض الواقع أم سينتكس الى أمَلٍ فى حقيقة الوعي فقط ،لا قدر الله.!!!!!!!!!! وفى الختام يبقى وَقْعُ الإخفاق مؤلمًا بقدرما نرى العَالم يعيش تحديات من قَبيل الثّقافة الرقمية والآلة الذّكية (الرّوبوتات) والذّكاء الإصطناعي ……فى حِينٍ نواجه نحن تحديات العيش الكريم والإكتفاء الذّاتي وتوفير البنى التحتية وغياب العدالة وتفشي الجهل والتخلف والتّبعية للآخر فى كل شيء وقائمة طويلة من المعاناة وخيبات الامل!!!!!
مدريد-المهندس:
أحمدو ولد الشيخ ولد أحمدو