هناك كلمات كثيرة بدأت تختفي تماما من قاموس الأغلبية رغم أنها ظلت وإلى وقت قريب تتصدر وتتوسط وتأتي في نهاية كل جملة مفيدة أو غير مفيدة يتلفظ بها أي واحد أو واحدة من السبعمائة ألف "مناضل" أو "مناضلة" في الاتحاد من أجل الجمهورية.
اختفت تلك الكلمات بعد أن انتهى عمرها الاستهلاكي، ولم يعد مناضلو ولا مناضلات الحزب الحاكم يمتلكون الجرأة للتلفظ بها، ولولا بعض المعارضين المشاكسين الذين وجدوا في إعادة إحياء تلك الكلمات، والتلفظ بها من حين لآخر، طريقة مثلى للسخرية من النظام. فلولا أولئك المشاكسين لنسيَّ الناس كلمات من نوع: التغيير البناء ـ تجديد الطبقة السياسية ـ الأزمة الأخلاقية ـ رئيس الفقراء ـ موريتانيا الجديدة ـ تحُقق أكثر من 70 % من البرنامج الانتخابي لرئيس الجمهورية، إلى غير ذلك من الكلمات المجيدة التي ظهرت مع شروق شمس السادس من أغسطس المجيد.
والمصيبة أن هذا الاختفاء لم يقتصر فقط على الخطاب "الصوتي" للأغلبية، بل إنه امتد ليصل إلى خطابها المكتوب، ذلك الخطاب الذي شهد نكسة فظيعة يوم قرر الوزير الدكتور أن يتوقف عن الكتابة بعد مقاله الشهير الذي كتبه بعد أول ظهور للرئيس خلال فترة علاجه في فرنسا. يومها كتب الدكتور مقالا تحت عنوان : " القوى الأمين.. شهادة للتاريخ، ونصائح لمن يهمه الضمير..." وقد جاء الدكتور في ذلك المقال بألقاب جديدة، فلقب الرئيس برجل القرآن، وبفاطر المشاريع، بينما ابتدع لقائد الجيش (ولد غزواني) ألقابا خاصة به : الأنصاري الأصيل، القوي الأمين.
ولأن الدكتور قد توقف عن الكتابة لأسباب لا أجد ضرورة لذكرها هنا، فقد ارتأيت ـ تعاطفا مع الأغلبية ـ أن أدون واحدة من تلك الكلمات في مقالي هذا، وذلك في انتظار أن يبعث الله للأغلبية كاتبا بديلا للدكتور، فيحيي تلك الكلمات من جديد، ويعيد إليها شيئا من ألقها المفقود!!
والحقيقة أن الذي جعلني أخصص هذا المقال لعبارة 70% دون غيرها من الكلمات والعبارات الأخرى التي كانت شائعة الاستخدام في تراث موريتانيا الأعماق، هو أني قد وجدت نفسي في يومكم هذا أمام وعد قد تحقق بنسبة 70%، تماما كما تحققت كل الوعود الأخرى لرئيس الفقراء، وبالنسبة ذاتها، أو تفوقها في بعض الأحيان.
فمنذ عام بالتمام والكمال خرج الآلاف من الموريتانيين، أو أخرجوا في مسيرة منددة بحرق الكتب الفقهية، ولقد استقبلهم رجل القرآن كما يقلبه الدكتور أمام القصر، وقال لهم قولته المشهورة : "إن دولتنا دولة مسلمة وليست علمانية"، ووعدهم وعده الأكثر إثارة، أي تطبيق الشريعة في جريمة حرق الكتب الفقهية.
فما الذي تحقق من ذلك الوعد المثير، خاصة وأننا اليوم نحتفل بمرور عام كامل على إطلاقه؟
لقد طُبقت الشريعة بنسبة 70% في رئيس حركة إيرا، وإليكم الدليل : لقد تم إطلاق سراح رئيس حركة إيرا، ورُخص له بحزب بمناسبة مرور عام على ذلك الوعد، وتم استقباله يوم أمس في القصر، ولمدة قيل بأنها لم تكن بالقصيرة.
دعونا نطرح سؤال ثانيا : متى سيكون بإمكاننا أن ندعيَّ بأن الوعد الشهير بتطبيق الشريعة قد تحقق بنسبة 100%؟
الجواب : عندما يتم تعيين رئيس حركة إيرا وزيرا في حكومة رجل القرآن وفاطر الوعود، عفوا، فاطر المشاريع بلغة الدكتور.
لقد كان تسييس الرئيس لتلك الحادثة خطأً فادحا، ولم يكن من اللائق بفاطر الوعود أن يتحدث لجماهير غاضبة، وأن يعدهم بحكم في قضية هي نظريا أمام القضاء. أخطاء كثيرة ارتكبت في تلك الأيام، ولكنها ليست أكثر خطورة من أخطاء أخرى ترتكب الآن، وبمناسبة مرور عام على محرقة الكتب الفقهية.
فما يقوم به الرئيس الآن هو أمر في غاية الخطورة، لأنه يستخدم قضية موريتانيا الأولى (قضية لحراطين) في صراعاته السياسية الآنية. فالرئيس لم يعد مطمئنا إلى الرئيس مسعود وإلى مبادرته، ولذلك فهو يفكر في البديل، ويبدو أنه قد حصر البدائل في شخصين على طرفي نقيض : رئيس حزب الوئام (قمة في الاعتدال)، ورئيس حركة إيرا (قمة في التطرف).
وعليكم أن لا تتفاجؤوا إذا ما سمعتم غدا عابر سبيل من الأغلبية العابرة يصف الرئيس مسعود بعدم الوطنية بعد أن كان يبالغ في وطنيته. إن مؤشر وطنية مسعود في الفترة القادمة سيكون مرتبطا في بورصة الأغلبية العابرة بموقف رجل القرآن من مبادرته، فإن قبل رجل القرآن بالمبادرة فذلك يعني بأن مسعود سيظل رجلا وطنيا، وإن رفضها فمسعود سيتحول إلى شخص عديم الوطنية، وتلك واحدة من مصائب الأغلبيات. وبطبيعة الحال فلا أحد في هذا العالم كله يمكن له أن يتكهن لكم بالموقف الذي سيتخذه رجل القرآن من مبادرة مسعود، لا أحد، إلا رجل القرآن نفسه.
فكم هو خطير أن يستقبل من وعد ذات يوم بتطبيق الشريعة رئيس حركة إيرا لوحده، ودون غيره، وذلك في نفس اليوم الذي صدرت فيه وثيقة: "الميثاق حول الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية لأرقاء موريتانيا السابقين"، وهي الوثيقة التي سأخصص لها إن شاء الله مقالا خاصا، نظرا لما فيها من نقاط مضيئة كثيرة، ولما فيها أيضا من نقاط معتمة.
فلماذا لم يستقبل الرئيس كل الموقعين على الوثيقة من نخب الشريحة؟ ولماذا يحاول الرئيس أن يعطي للصوت الأكثر تطرفا في الشريحة وزنا يفوق وزنه الحقيقي؟ ولماذا يحاول الرئيس أن يختزل كل الشريحة في حركة إيرا وفي رئيسها؟
بل ولماذا رفض الرئيس من قبل ذلك أن يرخص لحراس المستقبل والذين أرادوا أن يعطوا للنضال ضد الاسترقاق بعدا وطنيا، بدلا من تركه مقتصرا على مناضلي الشريحة لوحدهم؟
المصيبة الكبرى أن اللقاء برئيس حركة إيرا قد جاء مباشرة بعد لقاء آخر بقياديين من حركة "أفلام"، فلماذا يفتح الرئيس أبواب قصره لكل المتطرفين الذين اشتهروا بخطاباتهم المتطرفة، ولا يفتح تلك الأبواب للعقلاء وللمعتدلين من أبناء موريتانيا، ومن مختلف الشرائح؟
ذلك سؤال لا أملك أي إجابة عليه..
حفظ الله موريتانيا..