لك الله من شيخ المصاب فيه مصاب أمة يا عدود / د. محمد الحسن ولد اعبيدي

 د. محمد الحسن ولد اعبيديمن رجال موريتانيا المعاصرين قمم علمية يضيق التصنيف عن احتوائها والتعريف عن تحديد مناحيها العلمية وإن كشف هويتها الشخصية ، سعة مفردات معارفها لا تعترف بحدود التخصص و لاللأنساق العلمية بالتمايز ، تتضاءل الألقاب عاجزة عن الوفاء بسعة وشمولية محفوظات هؤلاء إن أطلقت عليهم وألصقت بغيرهم

وهو على ما فيه من جهل وتقصير وهم على ما هم عليه من تفوق وقوة حافظة، اللقب في حقهم تحجيم وتنكير واللقب له تلميع وتجميل لاسيما في أيامنا الحاضرة التي تتناسل فيها الألقاب الجامعية كنبات الفطر وتتدنى المستويات وتتراجع سمعة الشنقيطي المتصدر للمحافل العلمية أينما حل وتتقدم أخلاف لا يحسنون السير ولو بعرج مع طريق الأسلاف وللمتحسر –مثلي- أن ينشد مع من تقدم :

لقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها وحتى رامها كل مفلس.

وليتمثل بمرارة وتبرم من حياته قول شاعر "معرة النعمان":

فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل

وفعلا لم يعد للحياة من قيمة في موريتانيا أو "شنقيط" الحضارية بعد أن بدأت الكنوز المعرفية تنفد والبحار الزاخرة تجف ولم يبق لأبناء هذه الربوع ما يبرهنوا به في المحافل الدولية على أن ما حفظت الذاكرة العربية والإسلامية لأجدادهم ما زال موجودا من فرادة وتميز وتمكن من كل فن وقدرة على استحضار المعلومة في وقتها المناسب وعلى واقعها المناسب لأن في صدورهم ما دون في الكتب منقوشا في الذاكرة قبل أن تتطور الآلة بتجليتها المختلفة .

وما ذاكرة ابن التلاميد التي استعان بها العثمانيون أيام القحط المعرفي على طباعة الموسوعات اللغوية والشرعية إلا مثالا حيا على قوة ذاكرة الرعيل الأول من الشناقطة وسرعة بديهتم وتوقد أذهانهم .

ونموذج ابن التلاميد يمثله في عصرنا الحاضر فقيد الأمة الإسلامية ومرجعيتها الشيخ محمد سالم بن عدود أو "لمرابط" -كما أحب أن يدعى في حياته- الذي عرفته الملتقيات الدولية محدثا لا يمل حديثه ومحاضرا  يغترف من بحر لا تسبر أغواره ، يعطى السامع ما أراد من معارف قطوفها دانية قريبة المأخذ عذبة التذوق ، تكشف غطاء العقول لتبصر بعد عماء وتشحذ الهمم لتنطلق في مضاء وتحدو الأرواح لترفرف كالطير منطلقة من أقفاصها .

فرحم الله " لمرابط عدود" كم كانت محاضراته وأحاديثه المسموعة أو المرئية عبر الأثير فضاء علميا مفتوحا يتنقل فيه السامع من معارج التنزيل إلى مطالع التأويل ومراتع العقول ، يسامر في رمضانياته ابن القاسم في "مروياته" وأشهب في "خلافه" وسحنون في "سماعاته" وابن أبي زيد في "نوادره وزياداته" وابن العربي في "قبسه" وابن عبد البر في "كافيه وتمهيده" والأبي في "معلمه" وسيبويه في "لغوياته" والأشعري في "مباحثه" وابن جرير في "تأويله" دون أن يدخل إلى السامع مللا أو كللا ذهنيا وإن أحس ذلك صرف ذهنه دون أن يشعر لمعاقرة الملك الضليل أو مفاخرة اليعقوبي للشماخ بن ضرار أو نكت وطرائف ابن نباتة والحريري حتي تزول السآمة ويعود النشاط كما قال بن حمى الله :

وتارة يرقص من تذكيري بابن نباتة وبالحريري

طورا أخو جد وطورا عابث حتي كأني للأنام وارث

ثراء محاضرات بن عدود وتنوع مجالاتها جمع كل الصيد -كما يقال- في جوف الفرا .

(ففيها تجمع سيبويه ويوسف والكاتبي والأشعري وأشهب).

وقد أثمرت منهجا إصلاحيا يرتب بين الأولويات ويوازن بين المقتضيات وينظر المآلات بنظرة ثاقبة تقدر ما للنصوص من حرمة وقدسية وما للواقع من حاجة وضرورة .

ومن هذا المنطلق بقي خطاب عدود التوجيهي ثابتا طيلة مسيرته المهنية والدعوية لا تطغي أصالته على معاصرته وهو ما ترجمه في قصيدة يشخص فيها أزمة جيله والأجيال

التي أشرف على تربيتها إذ يقول فى بيته التالي

شباب يحسبون الدين جهلا وشيب يحسبون الجهل دينا.

ولا غرابة إن شعر ولد عدود بعظم مسؤولية الجيل الذي واكب بناء الدولة المستقلة بما صاحبه من تطوير النظم التشريعية وحلول وسائل للتلقي المعرفي جديدة تزاحم عطاء المحضرة وهو سليلها الذي خبر مناهجها وخالطت دماؤه مداد متونها ثم اطلع علي معارف العصر وإملاءات مدنيته بعد أن أسندت إليه مهمة بناء محاكم موريتانيا العصرية الخارجة لتوها من وصاية مستعمر من دعاة جهنم حسب تعبيره في البيت الآتي:

كفي حرنا ألا يزال يقودنا علي الخسف داع من دعاة جهنم.

وفلا غرابة إذا أن يشعر بضرورة المحافظة علي الأصالة المحظرية والانفتاح علي العصر والأخذ من نظمه ما يناسب صيرورة الحياة وتجدد أحداثها هو الجذيل المحكك .ومن لهذه المهمة غير عدود المخضرم العائد من بعثة علمية من تونس لدراسة القانون والتمرن علي أساليب التقاضي فباشر تطوير مساطر التقاضي في المحكمة وشرع في الإعداد لإصدار مدونات قانونية موريتانية تمتاح من المذهب المالكي ولا تخرج عن النسق القانوني في الدول الإسلامية الأخرى حديثة الاستقلال بالإضافة إلي انشغاله بالتدريس في المعهد العالي والجامعة والمدرسة الإدارية وغيرها من مؤسسات التكوين لإعداد جيل من العاملين في الحقل القضائي يملكون رصيدا فقهيا وثقافة قانونية واسعة تقرب من ذهنية المتقاضي الموريتاني القانون الوضعي وتقضي علي ثنائية المرجعية التشريعية في المحاكم.

يطهر هذا الهاجس جليا عند المربط عدود فقرة ممارسة مهنة القضاء التي امتدت 37 سنة في محاولته تقريب المراجع المعتمدة في القضاء على المذهب المالكي وتبسيط منهجها وشرح مصطلحاتها مثل ما فعل بتبصرة بن فرحون التي وضع علها نظما يبين موضوعاتها ويرشد لمواطن الاستدلال منها سماه شراع الفلك المسجون بعناوين تبصرة ابن فرحون جاء في مقدمة :

هذا وقد أشار خل ناصح له حجا في الصالحات راجح

بعقد ما قد نثرته التبصره عون لمن يريد أن يستذكره

وختمها بقوله

أختمها بقولة ابن عاصم معتصما من سائر القواصم

وذلك لما أن بليت بالقضا بعد شباب مرعني وانفضا

برحيل شيخنا ابن عدود فقدت الدبلو ماسية المعرفية الموريتانية حلقة مهمة وصلت بين ماضيها وحاضرها ، وعملت في حياتها بهدي نبيها لما ينتظرها في يومها الموعود مستحضرة قولة تعالي(( وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نبيك من الدنيا ))

وليس مصاب ولد عدود مصاب أسرة ولا مصاب قبيلة أو شعب أو دولة بل مصاب أمة كسفت شمسها ومصاب جيل فقد هاديه ونوازل فقدت من يرد شواردها لموار دالنصوص.

ومصاب مظلوم طوحت به الطوائح بحثا عمن ينصفه.

فليبكه كل هؤلاء بعيون تدمع وقلوب خاشعة امتثالا لقول الرسول صلي الله علية وسلم واستحضارا لقول الشاعر القديم :

ليبك يزيد ضارع لخصومة و مختبط مما تطيح الطوائح

ولئن غيب الثرى جسده الطاهر فسيبقي ذكره الخالد صدى يكرره المدى وثناء حسنا يخلفه السابق للاحق.

و كم وقف الراحل طويلا مع قوله تعالي:((رب هب لي حكما وألحقني بالصلحين واجعلي لسان صدق في الآخرين واجعلني من ورثة جنة النعيم)).

وهو بلا شك من الذين يتلون كتاب الله حق تلاوته منزجرين بزواجره ومؤتمرين بأوامره وقد ساعده ذلك أن يعبر دار العبور في قوارب النجاة فعاش ليخلف الأثر والحديث الحسن متمثلا قولا ابن دريد في مقصورته التي حفظها قبل أن تثغر أسنانه:

و إنما المرء حديث بعده فكن حديثا حسنا لمن وعى

وعزائنا في الفقيد أن الرحم التى أنجبته "مازال خصبا إن شاء الله فرحمه الله وأبقي في أنجاله من يعمل في مجاله.

2. مايو 2013 - 0:38

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا