عبرت قبل أيام من الآن عن حلم قديم-جديد طالما راودني، يتعلق بإيصال التجربة الانتخابية الموريتانية إلى "العتبة العلوية"، من منظور المشاركة والنضج والشفافية والمصداقية، ضمانا لأمن البلاد ومصالحها وتحييدا لدعاة التفرقة وعصرنة للمجتمع.
لقد شعرت بالاعتزاز بهذا الوطن وأنا أستعد للإدلاء بصوتي في مكتب "مدرسة علي" بمقاطعة "توجنين"، حيث استقبلني مشكورين بعض الإخوة والأصدقاء. أمام المكتب، تنافس محموم بين نشطاء أكثر من حزب سياسي لإقناعي بالتصويت لمرشحيهم، باعة متجولون، فضوليون، متسولون، في أجواء احتفالية. "صوتك أمانة"، ذكرني أحدهم، عند الوهلة الأولى، وهو يمر بجانبي متوجسا... ؛ قريبة (وأخت في الرضاعة) تمسك بيدي وتحاول أخذي جانبا إقناعا لي بالتصويت لحزبها... ؛ سيدة تفترش التراب، بصوت منهك، : "لا تنسوا فلانا، أعطوه صوتا أو صوتين..."، كلمات تشي بتسليم لقدر انتخابي دون الطموح... لقد فاجأني إيجابيا العدد الكبير للنساء مقارنة بالرجال، ليس فقط ضمن طوابير المقترعين ونشطاء "الحملة بدل الضائع"، بل داخل مكتب التصويت حيث كان تمثيل اللوائح المتنافسة شبه-نسائي بالكامل. وبمجرد دخولي المكتب، صاح أحد باسمي الكامل ورقمي التسلسلي على اللائحة، فانتابني شعور غريب بانتهاك خصوصيتي بالنظر إلى عدد الحضور، شعور حاولت إخفاءه قدر المستطاع. بنظرة سريعة يمنة إلى "ممثلي" اللوائح المتنافسة، ظننتني أمام فصل جامعي للطالبات ؛ "أمط لثامك!"، أمرت إحداهن بنبرة سلطوية، فنفذت الأمر جزئيا... إلى اليسار عني صناديق الاقتراع الست ترقب الجميع، وأمامي ثلاثة موظفين (رجلين وامرأة). بعد مطالعة المعطيات على بطاقة تعريفي، ودون أن يعيدها إلي رغم يدي الممدودة من أجل ذلك، أشار إلي الرجل الجالس في الوسط بالتوجه يمينا لاستلام بطاقات التصويت الستة : ضخمة ومحرجة في تقديري، خاصة في عصر الحاسوب الآلي والذكاء الاصطناعي وضرورة العناية بالغابات الإستوائية...
عندما دخلت "كشك" التصويت، شعرت بالأمان، فعبأت بالسرعة الممكنة خانة التصويت على كل ورقة، احتراما لوقت الجميع. هممت بثني كل بطاقة مرة واحدة، إلا أنها بقيت كبيرة في تقديري، فزدتها طية تسهيلا للإمساك بكل البطاقات مجتمعة ولإيداع كل واحدة منها في الصندوق المناسب.
عدت أدراجي وأنا أحاول مقارنة ألوان الأوراق الانتخابية بألوان الصناديق، إلا أن الأمر لم يكن "بدهيا"، إذ لم يكن هناك تطابق كلي بين المجموعتين، علما بأنني في بلد يشكل فيه الأخضر والأزرق نفس اللون... انبرى أحد رجال الأمن مشكورا لمساعدتي، إلا أن أحد الرجلين المشرفين على عملية الاقتراع رفقة السيدة، والذي ظل يلتزم الصمت قبل ذلك، تدخل : "اتركه يقوم بالأمر بنفسه!"، فأجبته من باب الدعابة : "ما ضرك لو تركته يساعدني، فالألوان ليست بهذا التطابق؟...". سهرت على إيداع كل ورقة في الصندوق المناسب بالعناية المطلوبة، ثم استعدت بطاقة تعريفي من الرجل الجالس في الوسط، بعد تحيته ورفيقيه، ثم أشرت بيدي إلى "الفصل"، وغادرت المكتب وشعور غريب ينتابني : لقد نجحت في تأدية واجبي المدني، في أفضل ظروف -قبْلية وفعلية- عرفتها منذ انطلاق المسلسل الديمقراطي مطلع تسعينيات القرن الماضي...
أمام مكاتب الاقتراع وفي الشارع، "احتفلت"، على طريقتي، بانتصار الديمقراطية الموريتانية في هذا اليوم المفصلي، رفقة بعض الإخوة والأصدقاء، حيث تبادلنا أطراف الحديث حول أمور جانبية -على أهميتها- كنقاط القوة والضعف لدينا وحظوظ النجاح في هذا المكتب أو ذاك وفي هذه النقطة من الوطن أو تلك، مقارنة بأداءات منافسينا الميدانيين الرئيسيين.