أجد نفسي – في مواطن كثيرة – أمام عدد هائل من الصور المختلفة؛ ينمحي أثر بعضها سريعا - دون تدخل مني - فيما يعلق بعضها الآخر في ذهني - شئت ذلك أم أبيت – ونادرا ما ألجأ إلى تفريغ ما علق من هذه الصور في قالب كتابي أشاركه غيري؛ لأسباب تتعدد؛ أهمها انعدام الأهلية وعدم امتلاك الأدوات.
هذه المرة قررت - مكرها لا بطلا - أن أشارك هذا الغير صورة ترسمت فيها "أوجاع جدة" حرم حفيداها من حقهما في التعليم؛ فما بقي لهما غير ما هو متداول في وسطهم من معارف؛ وأخلاقيات؛ كحضن تربوي تقليدي له أهميته الخاصة والمقدرة.
في يوم من الأيام؛ قررتُ السفر إلى "قرية أندميش" في مهمة وطنية من الدرجة الأولى؛ وكان في رفقتي عدد من زملائي في "المهمة المؤقتة"؛ كنا جمعا من المتحابين - رغم اختلافِ ألوانِنا وألسنتِنا – ندفع وعثاءَ السفرِ بما تيسرَ من "طرائف" و "وظريف المواقف" وأشياء أخرى.
القرية تقع في أقصى الحدود الساحلية لولاية اترارزه؛ تطل على الشاطئ الأطلسي؛ يصلها طريق عادي طوله يزيد على 30 كيلومترا؛ يتفرع من الطريق المعبد الرابط بين العاصمة نواكشوط ومدينة روصو؛ تتبع القرية لـ"بلدية أمبلل"؛ وتحمل الرمز (76) من بين التجمعات السكنية المشكلة للبلدية (3) في مقاطعة كرمسين.
تصنفُ القرية المذكورة ضمن التجمعات السكنية القائمة والثابتة، نظرا لوجود مباني كبيرة بها؛ أفردت للعمال الصيادين؛ بالإضافة إلى عشرات الأكواخ والأعرشة التي يتخذها باقي السكان مساكن لهم.
تنتمي القرية إلى "الوسط الريفي"؛ يرمز له بالرمز (2)؛ طبقا لمصطلحات ورموز خريطة - مثبتة على غلاف ورقي بحجم A4 - راقتنا في رحلتنا.
تعاني القرية من "العزلة" وتنمحي فيها آثار "الصحة" وتغيب فيها "الدولة" ولها قصة مع الحرمان من "التعليم".
انتهى بنا السفرُ مساءً عندها؛ بدأنا نستكشفها سريعا؛ محاولين تجاهل النسيم البارد الذي بدأ يغمرنا؛ كانت الطبيعة الرملية الساحرة لأرضيتها تعيق سيرنا من حين لآخر؛ وبعد دقائق من الاستكشاف؛ بدأنا المهمة (جمع ما تيسر من بيانات عن أفراد القرية وأوضاعهم العامة).
في كوخ متهالك تجلس جدة مسنة؛ مع بنتيها؛ وحفيدين لها؛ يمارس الأخيران هوايتهما في اللعب الهادئ وسط الكوخ الضيق؛ في محاولة منهما للتخفيف من حسرتهما على إغلاق مدرستهما الابتدائية.
وفي ركن قصي منه تجلس إحدى البنات، وقد أنهت لتوها كتابة درسها القرءاني اليومي في لوحها الخشبي؛ وعليها - قبل أن يجف اللوح - أن تعيد قراءته مرات عديدة، كما تقتضي ذلك منهجية التعليم الأهلي.
كذلك في نفس الوقت؛ تريح الجدة نفسها بركعات تؤديهما بخشوع تام؛ وهي متلفعة بملحفة سوداء؛ فترسم صورة إيمانية تسمو على كل وصف.
كان سؤالي؛ القطرة التي أفاضت الكأس؛ فـ"سؤال التعليم" - بالنسبة للجدة - هو نكء لجرح غائر في جسمها؛ لما يندمل بعد.
"في ذلك اليوم المشهود منح مدرس مدرسة القرية حقه في التقاعد؛ ومنذ ذلك الحين فشلت الدولة ممثلة في وزارة الدولة للتهذيب الوطني؛ في تعيين مدرسٍ آخر محله؛ فأغلقت المدرسة أبوابها أمام الأبناء وحرموا من حقهم في التعليم".
وانطلاقا من قناعتها بتلازم رداء "الاستبداد" مع رداء "التجهيل" في الأنظمة السلطوية؛ لا تعول "الجدة" على النظام القائم في إزالة "أوجاعها"؛ وهي تألم لحرمان حفيديها من "التعليم"؛ مكتفية باجتهادها في تعويض الخسارة؛ بما أوتيت من "أدوات" تظل تقليدية إلى أبعد الحدود.
وتنشد مع الشاعر: فلا تجزعن إن أظلم الدهر مرة *** فإن اعتكار الليل يؤذن بالفجر