استوقفتني ملحمة غنائية مبهرة وقعت بين عملاقين من عمالقة الأغنية العربية الملحن رياض السنباطي والسيدة أم كلثوم من اجل غناء رائعة الدكتور ابراهيم ناجي "الأطلال "
وتعود كماهو معروف قصة الأطلال الى قصة واقعية ففي شباب الدكتور ابراهيم ناجي إستفاد من بعثة دراسية الى فرنسا وكان حينها على علاقة مع فتاة لم يوثق لها عائليا وانما كانت التزامابينه والفتاة .
ويلعب الفراق لعبته المعتادة في تغيير مسار الوعد الذي يفقد صلاحيته أمام طرق باب الفتاة على سنة أهلها وعادات مجتمع خلقت فيه الفتاة لمهمة واحدة مصيرية لا تقبل أي تأجيل ولا مساومة فيه ولا أعذار .
وهكذا يحتل الوافد الجديد محل الغائب عن تقرير مصير الفتاة والحاضر في الوجدان والقلب … لكن هنا العقل الجمعوي هو محدد المصير والمتحدث الحاسم لفعل لقاء المتنافر والعامل على إبعاد قلوب تفرقت على أمل اللقاء الذي كان على مايبدو صرخا من خيال فهوى .
وتجد الفتاة نفسها بين خيارين مكتوم محسوس هو منعش الروح ومظنة ترف العاطفة وسعادة الدنيا وبين حاضر ملموس هو خيار الأهل ومصدر ثقة المجتمع وخاتمة الولاء المطلق للكبت الإجتماعي الذي فرض التكتم على وعد ظن أصحابه أن سريته مصدر لحمايته من غدر السنين .
ويتابع صاحبنا تحصيله العلمي في مجال الطب ويتخرج ويعود الى وطنه دكتورا يمارس أنبل المهن ويقوم بعمله على أكمل وجه وفي خضم التكليف والتوظيف و بعد معرفة مصير حلمه الذي تلاشى في ظل مجتمع لايعمل الا على مصادرة الرأي وفتاة مسكينة لا تملك حق الدفاع ولا البوح عن ساكن قلب غادر على أمل عودة لا تملك من الشهود الا قلباليس مصدقا عقليا على اختياره وترضى بحياتها الجديدة وتدخل هي الأخرى في خضم الواقع المفترض لمثيلاتها .
وتبدأ بحياتها الإعتيادية التي تكلل بفرحة الحمل الذي هو أمل كل أسرة جديدة ومصدر فرحتها … لكن مخاضها كان عسيرا أو أن هناك ترتيبات أخرى لاقدرة للعقل على تفسيرها .
فبعد ان شرب الشاب على أطلال الحب كإنسان وترك الدمع يروى حديث الهوى تعيده مهنته ليقف كطبيب أمام حالة مرضية مستعصية تتطلب تدخل أمثاله من أصحاب المهنية العالية والخبرة .
وهو الذى تمنى ذات تذكر ان تجمعهم أقدارهم بعد ما عز اللقاء وكأنه يرى هذه اللحظة التى كانت محض حظ شاء أن تكون مريضة في حالة احتياج لتدخل طبي غرباء في وقوعه وتمتد يده فيها لإنقاذ محبوبة الأمس مريضة اليوم كيد مدت لغريق .
ينجح الدكتور إبراهيم ناجي في انقاذ روح محبوبته ويعود ليلته تلك الى بيته وبقدر اجهاده العقلي كان قلبه شبه مشلول من صدفة لايدري أين يضعها أيقظت مكامن مخزون من الذكريات ..والحب ..والشوق والشجن ..كان في القريب في نطاق المأمل المرجو وأصبح اليوم في منطق المحرم المحسوس ..
وتختفى مهنة الطب لحظات لتفسح المجال لإستبدال قياس النبض بإرتفاع درجة التذكر وتضغط الشرايين بشريط ممتليئ بذكريات تتموج كرسم قلب منهك تعلو هنا لتهبط هناك لتواصل درجات الخطر الى حد استيقاظ شاعرية اختفت بفعل طغيان الحالات الانسانية لدى شاعرنا وارتفاع ضغط عامل المهنية وتراجع نسبة مؤشر عمل العاطفة ومسبباتها ،فتستيقظ هذه العوامل دفعة واحدة وهي التى استعصت على مايبدو على كل تعقيم وتحدت كل احتراز وكان المولود نغما حمل أجمل شعور وعبر عن أنبل موقف وفرج عن قلب كاد أن يئد مولدة بأي ذنب قتلت !!
وولدت الأطلال …
سمعت كوكب الشرق قصيدة الأطلال وأعجبتها وهي التي عرف عنها دقة الاختيار والتحكم في إعادة الانشاء من خلال جمال إعادة الإنشاد وبعد أن دخلت في مرحلة التلحين دخلت في خلاف مع الملحن رياض السنباطي على قفل نهاية الفقرة الأخيرة ولأم كلثوم خصوصيتها كما يمتلك السنباطي أيضا وجهة نظر عرف بالتمسك بها وعدم المساومة في التنازل عنها .
وكأنه كتب لهذه المولودة ان تعيش نفس مصير حب أمسى خبرا وحديثا من أحاديث الجوى ..
وينتهى الخلاف ذات مساء وتغني السيدة ام كلثوم مساء الخميس كعادتهالأطلال وتجد من التفاعل ما لايوصف وبعد أن كانت تتوجه نهاية كل حفل الى بيتها تجعل وجهتها هذه المرة بيت رياض السنباطي الذي تعاتبه أخويا بهذا الخلاف الذي وقع بينهما والقطيعة التي كان فيهاالحنين يكوي أضلعهما والثواني جمرات في دمهما ، كما كانت من قبل في تشكل كريات دم الشاعر الطبيب ..
يافؤادي لا تسل أين الهوى كان
صرحامن خيال فهوى
اسقني وأشرب على أطلاله وارو
عني طالما الدمع روى
كيف ذاك الحب أمسى خبرا وحديثا
من أحاديث الجوى