الوضع السياسي في هذه المرحة، يؤكد الانسداد السياسي المتزايد على الصعيد المحلي، حيث لم يتخل النظام عن ممارساته الأحادية الاستفزازية المعبرة عن خطف الحكم، والتمييز لصالح المقربين عائليا من الحاكم العسكري، الانقلابي المتغلب، مع تزايد العطش (فقدان الماء الشروب في الكثير من المدن)
والفقر، وتناقص الأمل في بناء دولة عادلة مزدهرة، في غياب سبل الخلاص السريع من هذا المهيمن، المثير للازمات والمعضلات المتنوعة المتصاعدة.
وبعد أن ظلت كثير من الأعناق مشرئبة نحو جهد المنسقية، بوصفها الجناح الأبرز راديكالية وصرامة ضد نظام العناد والشعارات الجوفاء، بدأ القنوط يتسلل إلى بعض نفوس مناصري المنسقية، نظرا لعجزها عن إسقاط النظام، أو على الأقل هزه في انتظار الإجهاز عليه والخلاص منه بحكمة وسلم.
أجل، سقط شعار "ترحيل النظام" لأن النظام لم يرحل، وإنما بدأت المنسقية في الرجوع إلى مبادرة مسعود، ضمن تراجع عملي صريح عن شعار "ارحل"، ولعل أصحاب "المنسقية" لا يريدون ترك مقاعدهم لولد عبد العزيز، سواء في البرلمان أو البلديات، لأنهم غير عازمين على إعلان مقاطعة تلك الانتخابات المنتظرة، والراجحة الربح لصالح النظام القائم، نظرا لطبيعة الأجواء التي ستجري فيها هذه العملية الانتخابية، من روح الخوف من الحكومة لدى أغلب الناخبين، وعدم تساوي الفرص، وبصورة عميقة.
هذا إلى جانب انحياز الإدارة ومختلف قوى الأمن والعسكر، لصالح المحسوبين على النظام.
وبغض النظر عن حسابات الربح والخسارة بالمعيار السياسي، لدى المنسقية، تجاه الانتخابات المرتقبة، إن حصلت فعلا، فإن إذعان المنسقية لمناقشة مبادرة مسعود، يعني الكثير، أقله صعوبة ترحيل النظام في حساب المنسقية هذه، وإمكانية مشاركتها في انتخابات عزيز البرلمانية والبلدية"، في حالة الاستجابة لشروطها، أو ربما الاقتراب منها. وكل هذا يدل على ربح النظام، بسقوط "ارحل" واستبدالها بالحوار والتفاوض، ربما أيضا على نسق اتفاق دكار، الذي شكل ما بعده، هزيمة نكراء للقوى المعارضة لولد عبد العزيز، وتمزق صفها، وتشتت جهودها وإلى اليوم.
فهل المنسقية، في الوقت الراهن، تجر جرا، مكرهة لا مختارة -لتناقص وضيق الخيارات-إلى اتفاق دكار جديد، وهذه المرة في نواكشوط، لتكون المحصلة بقاء ولد عبد العزيز في دفة الحكم، وتجديد دماء نظام الاستبداد الجديد القديم، بدافع من خوف المعارضين الراديكاليين لفقد مكاسبهم الانتخابية المحدودة، في حالة مقاطعتهم المستبعدة؟!.
وفي الوقت الراهن، تتردد المنسقية، وتقبل ضمنيا بالتفاوض على مشاركتها في الانتخابات المحتملة، من خلال نقاشها لمبادرة رئيس الجمعية الوطنية، فهل بقي لدعوة "ارحل" من معنى جاد حقيقي.
لا، إنها خديعة الجماهير ومحاولة مكشوفة للتلاعب بالرأي العام، والمعارض على وجه الخصوص، فهل من معنى للجمع بين أمل ربيع موريتاني، من خلال الترحيل الفعلي للنظام الاستبدادي القائم، وطريقة التعاطي الحالي مع مبادرة ولد بلخير.
وفي هذا الجو يتواصل التلاعب.
فالنظام لم ينظم انتخابات بعد مضي وقت طويل على انقضاء الآجال الإنتخابية القانونية، سواء بالنسبة للبرلمان أو المجالس البلدية، وممثلي المعارضة يقطفون الثمار، بسحب رواتبهم المعتبرة، ويحضرون لهيئات برلمانية وبلدية منتهية الصلاحية.
كلهم-نظاما ومعارضة- شركاء في التلاعب الواسع الجلي، بالقانون والديمقراطية وثروة الشعب، وأمله في العدل والتناوب على مأمورياته الانتخابية.
إن أحزاب المنسقية مدعوة، قبل النظام إلى التشاور الواسع على الأقل، مع قواعدها الحزبية، للتمكن من رسم خارطة طريق مقبولة مأمونة، للتعامل مع المنعطف الراهن الحرج حقا.
أما تجاهل شارعهم السياسي الخاص، الذي هو الضامن لشرعيتهم وفاعليتهم، فهو بداية النهاية-لا قدر الله- للجهد المعارض الحازم.
لتبقى الساحة هشة هزيلة أمام غزو الجهد الأحادي المستبد، المختزن في كيان النظام، معززا بما يهيمن عليه من مقدرات معنوية سلطوية، وثروات مادية متنوعة.
فتذهب قوة الرفض، ويتراجع توقيت الخلاص السلمي المشروع، من حكومة التصفيق والمباركة العمياء على حساب الشعب وتوقه لأسلوب حكامة، مبنية على الرأي والرأي الآخر، والإحترام الجاد للتعدد والمشورة.
حاجتنا تتزايد للتغيير نحو أفق شوري تنموي أفضل، عبر تجاوز عزيز وعسكره، وحاشيته المدنية النفعية، لكن هذه الحاجة لا تغني عن شرط التعقل والابتعاد الشديد عن لغة العنف وأسلوبه، سواء لدى النظام أو المعارضة.
فإمكانية نشوب حرب أهلية، خطر غير مستبعد، إن لم نقتصر على النضال السلمي، الحذر من مهاوي العنف والتطرف، باعتبار ما هو موجود من تنوع عرقي وطبقي، قد يستغل ضد وجود دولتنا، إذا تساهلنا في طريقة تعاملنا مع تحدياتنا ومشاكلنا المقلقة.
إن الكيان الصهيوني، ولو كان بعيدا جغرافيا، فهو قريب الخطر، حاضر الممثل، قد لا يجد في الفرقة والصراع الدموي بيننا، أفضل وسيلة لإشفاء غليله فينا، وفي جسمنا المسلم الضعيف، بعد طرد سفيره من الديار، وخلع علمه المقيت من فوق أرض الرباط والمنار.
وإن تزايد دعوات الأقليات والشرائح الشاكية، وتعدد ألوان الجريمة، قتلا واغتصابا وسرقة، وتصاعد حدة العطش والفقر المدقع، في الكثير من بقاع الوطن المترامي الأطراف، كلها مؤشرات، تدل على هشاشة الوضع، وضرورة التسارع إلى دراسة سبل الخروج السلمي من أزمتنا المتفاقمة، دون إضعاف الدولة.
فقوى الأمن والجيش، رغم عيوبها ونواقصها، ستشكل دائما، فرصة بقاء هذا المشروع، المسمى موريتانيا، في حالة خروج الذئاب من غفوتها وهدنتها العابرة.
فلا مجال لتحول المعارضة، رغم اليأس إلى ساحة أخرى، غير ساحة النضال السلمي المسؤول والصارم أيضا.
إن من حقنا أن نتغير نحو سبل فاعلة في سياق التنمية والممارسة الميدانية لمختلف الحريات المشروعة، ولكن هذا لا ينبغي أن يعني الفوضى، وقد تكون الحاجة ملحة، لتقوية أركان الدولة عسكريا وأمنيا واقتصاديا، حتى لا تعبث بنا روح المطالب المفتوحة المطلقة الحرة، من روح التماسك والحرص على لحمتنا الاجتماعية وحوزتنا الترابية المقدسة.
وقد تبدو للمتأمل، ساحتنا الوطنية زاخرة بالتحديات الحقيقية، وبحاجة ماسة للتفكير الاستيراتيجي الاستعجالي، في جانب منه.
وسيبقى وعي القيادة، بغض النظر عن مدى شرعيتها، ووعي النخب، سواء كانت موالية أو معارضة، من أهم صمامات حفظ الوطن، الذي يمر بمرحلة حرجة، تتطلب جهد جميع الوطنيين، وبغض النظر عن لونهم أو خيارهم السياسي.
وما عناد النظام وتخبطه في الأزمات، وحيرة المعارضة الراديكالية، ممثلة أساسا في المنسقية، وقلة الخيارات في سلتها، إلا دليل مفحم على عمق أزمتنا، المتنوعة الأقطاب والجوانب.