رغم بساطة تعليم جعفر فهو يدرك منطق الصراع الذي تكرسه قاعدة عدو عدوي صديقي وصديق عدي عدوي؛ ومن هذا المنطلق فهو عدو الشعب لأن الشعب صديق الدولة.
جعفر سائق سيارة أجرة اقلني من مقاطعة دار النعيم صوب مقاطعة لكصر بعد أن عجزت عن الحصول على سيارة أجرة مباشرة إلى قلب العاصمة ( كابتال..) .
وبعد أن أصبحنا في مجال مقاطعة لكسر أخذ يستقبل ركاب متوجهين إلى الجامعة بعد أن كان ينفي ذهابه إلى تلك الوجهة!..
.. ورغم أن الأمر بدالي كما لو أنها خدعة؛ لكن جعفر.. همس لي "لقد انتهى مجالك"!..
قلت أعرف أنا متوجه إلى الجامعة؛ فقال وهو يبتسم بخبث ماكر؛ ولكن ذلك خطا آخر!.. يقصد تعريفة جديدة!.
قلت لا مانع لكن ماذا لم أكمل معروفه وأوصلنا إلى وسط العاصمة (كابيال).. إلا أنه أصر بشدة أن الجامعة آخر محطة له.. لأنه سينحرف مباشرة إلى مقاطعة عرفات في الجهة الجنوب شرقية!..
من الأمور التي لفتت انتباهي في حديث جعفر أثناء نضاله وسط زحمة مرور خانقة محاولته لفت انتباه الركاب إلى مآخذه ضد سياسة ليبرالية سوق النقل العمومي من طرف الدولة؛ حيث يعتبر الأمر تصرف من "لا يملك في ما لا يملك".
وحجته إلى ذلك أن إضراب يوم واحد من طرف ملاك سيارات الأجرة سيفضح زيف الإدعاءات التي تسوقها الدولة لبسطاء الشعب ويصدقونها هكذا بكل سذاجة...
لم تكن سذاجة جعفر هي اللافت في الأمر بل نظرته لفكرة ليبرالية سوق النقل العمومي التي باتت توجها لدى الدولة رغم أنها لا تملك سيارة أجرة واحدة كما يقول جعفر.
ومع العصبية التي كانت بادية في سلوكه وحدة خطابه؛ إلا أنه لا يخفي قدرته على ممارسة ليبرالية سوداء تضمن له مصالحه في وجه ما يصفه بوحشية الدولة.
جعفر يأخذ على الدولة ممارستها ما يعتبره خدعا بصرية أثناء رفع أسعار البنزين واختراع مزيد من الضرائب وإطلاق العنان لأجهزتها العسكرية وشبه العسكرية لتطويق الطرق المؤدية إلى قلب العاصمة..
وفي مواجهة ذلك يعتقد أنه بإمكانه الرد على ليبرالية الدولة بليبرالية أكثر تطرفا وقدرة على المناورة في مثل هذه الظروف التي يصفها بالخانقة..
ولأنني أجالسه في المقصورة الأمامية حاولت توجيه النقاش قائلا إن المستفيد الأول من عملية التنظيم هذه شريحة الناقلين أنفسهم؛ حيث ستسد الطريق أمام الطفيليين؛ إلا أن جعفر كان حساسا بشأن مسألة الحجز على سيارته من طرق تجمع أمن الطرق ما تسبب في خسارته مبالغ مالية لا بد من تعويضها عبر خطة كان قد أنتهجها منذ بعض الوقت..
وتقضي الخطة الجديدة بتجزئة المحور الواحد إلى أكثر من محور وبأكثر من تعريفة على أن لا يصل آخر محور إلى وسط العاصمة التي تحولت شيئا فشيئا إلى منطقة محاصرة ومعزولة؛ حيث يتكدس الآلاف من الشغيلة والطلاب وعامة الناس ساعات طويلة على أرصفة الطرق دون الحصول على وسيلة نقل.
ومع إصرار جعفر وأمثاله من سائقي سيارة الأجرة التي تغطي حركة المرور بالعاصمة نواكشوط على التصعيد من سلوكهم الاحتكاري والمضارب في الوقت نفسه؛ وما يعكسه ذلك من حصار حقيقي بات يطوق منطقة وسط البلد في ظل غياب بدائل لدى الدولة للحد من تفاقم أزمة النقل الحضري بالعاصمة يبقى مجال سوق النقل السوداء مفتوحا على مصراعيه؛ حيث تتصارع أكثر من ليبرالية للضغط على القدرة الشرائية للمواطن.