علق العالم العربي لعقود في سؤال النهضة ، وهذا السؤال ليس من الأسئلة ذوات الإجابة الواحدة أو المحددة أو حتى الواضحة ، وهو بذلك سؤال مربك ومعقد .
هناك جانب نفسي تعلق بدوافع السؤال ، وهو جانب جعله سؤالا لا ينتظر الإجابة بقدرما كان مطروحا وحيا لترويج الدعاية التاريخية واعتزال الإقتداء و النمذجة .
فحين يطرح العرب النهضة كمفهوم فهم بذلك يسلطون الضوء على إرثهم المستحق أو المغتصب أو المنتظر .
وتلك عقدة يضيق المقام عن لملمة أطرافها ، ولو أنه يستدعي الإشارة إليها بغية نسج واضح لموضوع المنشور .
هناك من اقتدى بالعصر وعينه على مشاركة الهم الإنساني والاسهام في أول تجربة حضارية أممية عرفها التاريخ .
وهناك من نظر خلفه ليبارك غروره من خلال الاقتداء بنفسه لحظة كان قدوة لغيره .
وهنا يكمن الفرق
انشغل الياباني في تأمل المحرك الألماني ، وتمعن أسراره.
وانكب السنغافوري على المختبر يتأمل تراكيب الدواء السويسري.
بينما ثقبت عين الصيني أسرار الغرب وتلصصت على بواعث نهضته .
في هذا الخضم تحركت على هامش النشاط الحضاري ثلاث توجهات متشابهة في النهج ومتطابقة في الروح .
التوجه الأول معاد للغرب و كرس كل ثروته للمواجهة والتسلح واعتبر المواجهة قضية ، واختزل الانسان في آلة تكتسب قيمتها من انتصارها للقضية بينما لا تُعنى القضية بغاية الإنسان .
مثل هذا التوجه في أوجه ما عرف بالاتحاد السوفييتي ، الذي ورث شحنته لجيوب أخرى في العالم ، وبتفاوت .
ولايزال يمين هذا التوجه متجسدا في دولة كوريا الشمالية ووسطه في بعض دول أمريكا الجنوبية ، بينما يستقر يساره في الصين .
التوجه الثاني هو توجه أخذته العزة بالماضي باعتباره قدوة لنفسه ، وصار جل همه في محاربة المفاهيم التي يعتبرها مبشرة بذوبانه .
وهو توجه تجسدت فيه عقدة الأنا المصابة والتي تحتاج للصيانة وليس للاستبدال .
جسد هذا التوجه جل العالم الاسلامي الذي سوق الحضارة الغربية كمنافس غولي يبتغي إبلاع تاريخه وتحييد إرثه .
فشكل مواجهة مفاهيمية فقيرة سياسيا ومدمنة على الخصومة ومنتج الخصم في ذات الوقت .
فشكلت بذلك تركيبة متناقضة بين التحالف السياسي مع الخصم ومباراته الخصومة في الخطاب والمفاهيم والثقافة .
شكل يمين هذا التوجه دول مثل إيران والسودان والعراق وسوريا البعثيتين ، بينما استقرت في وسطه دول الخليج ، وكان يساره منتشرا في دول شرق ووسط آسيا المسلمة .
التوجه الثالث كان لايزال طائفا في فراغ حضاري شفاف ، واتخذ مسلكا لا مباليا من هذا المد الحضاري الحديث .
ومثلته دول كثيرة يقبع أغلبها في القارة السمراء .
ليس هذا مجال فصل ولا تفصيل لكل تلك التوجهات ، لأن الموضوع هنا للاستشهاد في موضوع آخر وهو موضوع المنشور .
طرح السؤال بصيغة أممية ( لماذا تخلفت الأمة وتقدم غيرها ) وطرح في صيغة قطرية ، ( لماذا تقدمت اليابان وتخلفت مصر ) أو ( الجزائر - ماليزيا ) ... الخ
وطرح في صيغته السياسية الايديولوجية ( اسرائيل - العرب ) ، ( العالم الاسلامي - العالم المسيحي ) ونماذج السؤال كثيرة ومتنوعة وباعتبارات مختلفة .
وسأحاول الإجابة على السؤال للإسهام في فك رموز الإجابة وليس للإجابة .
أعتقد أن توظيف الجهد السياسي والفكري والإبتكار التقني والمفاهيمي يجب أن يكون لرفاه الإنسان وليس خدمة لقيمه .
لأن اللبس بين الغايتين شفاف جدا بحيث يصعب إدراكه وحتى تفهمه بعد الإدراك .
سأورد مثالا للشرح واستلطاف المراد .
حين تم تحريم الزنى ، كان ذلك حماية للإنسان منه وليس حماية الزنى من الانسان .
كانت الغاية هي جودة حياة الانسان وتنظيمها واستقرارها .
حدث بعد ذلك أن تشدد الفقهاء في فقه سد الذرائع حتى تم الفصل بين الجنسين بحصر أحدهما بعيدا عن نظر الآخر وتعتيمه وتغطيته حتى لا يستحث بوادر الفعل أو ذرائعه ، وسكت بذلك قاعدة " مايؤدي إلى حرام فهو حرام "
وفي هذا الخضم لم يعد الانسان هو غاية التقويم والتهذيب ،وإنما محاصرة الزنى هي الغاية ، ولم تعد نزعات هذا الإنسان مطروحة للتنظيم وإنما تم عزلها بعيدا وكأنها نسي من الفطرة أو مكتسبة بفعل إثم أو خطيئة .
تضخمت الدوافع لدى الانسان المحاصر وتفاقمت حيوانيته وتذلل لشهوته وأصبح في اعتبار الوحش ( " الذئاب البشرية " كما كنا نسمع من الفقهاء والوعاظ قبل عقد أو اكثر. ) .
تحولت خارطة الكبت إلى أكثر الأمم إنفاقا على الجنس خارج الحدود ، وأكبر مستهلك للمنشطات الجنسية ، وأكثرها بحثا عن المواد الإباحية في محركات البحث السيبيرية .
هكذا تشكلت خارطة الوعي وأعيدت صياغة الفطرة للتحول لبرنامج مشوه يشبه التلاعب بالجينات .
في المثال أعلاه تم انتاج قيم وحيدت أخرى .
وفي ذات المثال إستعدتُ الآن قيما وحيدت أخرى .
كيف حصل ذلك ؟
ماتحتاجه القيم لتكون حية في الواقع ليس فقط استئصالها من حيز الكمون المثالي ، وإنما بكشف الزيف الذي يعج به الواقع حولها .
واللحظة النفسية هي لحظة مباغتة الوهم للحقيقة ( المرض ) ، أو لحظة مباغتة الحقيقة للوهم ( التوازن ) .
وفي المثال أعلاه يمكننا بسهولة إحلال الحقيقة حيز الزيف ، ليس بالإرادة الفاعلة وإنما بفضح الزيف المترسب حول الحقيقة بفعل التقرير البشري عبر الزمن .
للفطرة قوة كامنة لا تحتاج لأكثر من الوعي بالحاجة لها لتنطلق مندفعة ومنيرة لسراديب الوهم وظلماته .
وجل الشعوب التي تحدثت عنها ، كان عامل تأخرها هو تثقيف العداء وتقديس المخوف وتسخير الإنسان للخوف من المفاهيم بدل نثر محتوى هذه الشعوب وإرثها ليستوطن موطئا في الحيز الإنساني بعد المغالبة والتأثر والتأثير .
وللموضوع بقية في حيز فلسفي لن يكون متقبلا لدى الكثير منكم وهو علاقة إحياء القيم وإنتاجها بالتنمية ، لأنني أنتقي من الفلسفات مايطيب إستشعاره للفطرة والعقل ، دون الخضوع لهيمنة التوجهات والمدارس الفكرية والايديولوجية .
وفي حيز الإنتاج القيمي وآلياته وطبيعة وخصائص خطوط إنتاجه ، تحدثت الماركسية بكياسة ومنطق قوي .
لهذا إعتقدت ان الأمر لن يريحكم كاقتباس .
لكن قوة النقد تحتاج للتفعيل للتحصن بالمنطق لتجوب حقول المعرفة الإنسانية مقتبسة توليفتها المناسبة بين زحام المرور الفكري والفلسفي .
فنموذجية تشي جيفارا تتعلق بمغالبته للباطل وليس بدينه ومعتقده .
ونقد البنا هو نقد لتصوراته للنهضة وليس لمعتقده ودينه .
وهكذا .
يكون العمل الإنساني متكاملا حين يبتعد عن التعقيد والتقعيد .
ّ
وطالب الحكمة يصدر عن أخري .
في المشروع الوطني نطرح خطة واعية لإحلال المثل في حيز الممارسة وإحالتها إلى قيم حية تتجسد سلوكيا ومعرفيا في
أديم الواقع .
ولنا في ذلك استراتيجيات علمية نستحسن مشاركتنا في تفعيلها وتقييمها