يدور الاهتمام للاجابة على السؤال اعلاه في فكر القرن الخامس الهجري/ العاشر الميلادي، ولكن لابد من الإشارة الى ما تفتقت عنه الوعي السياسي في بواكير الانتاج الفكري في الاسهامات المتواضعة لكتابنا بالقياس الى ما انتج حاليا في الاقطار العربية، والإفريقية، دون أن ننسى التأثير السلبي للثقافة الشفوية المعادية للتوثيق ربما، ورغم وحدة التراث في ثقافتنا العربية، فإن الذي انتجته الثقافة الشنقيطية، وامتدادها في المجتمع الموريتاني طيلة تاريخ التمدين في" العواصم السياسية " - غانا، اودغوست، آزوكي، - وما خلفته التجارب السياسية التي لم نتحصل من فكرها السياسي على غير كتاب " الإشارة في تدبير الإمارة"، على عهد حكم " المرابطون".
بينما في مجال التراجم للعلماء الذين وصل تعداد أسمائهم ٢٠٠ عالما، لكن أين تراثهم اذا كان موجودا؟ ومتى تقوم اقسام جامعة نواكشوط بدورهم في استبعاث الحركة العلمية لإحياء التراث؟
وهذا المقال، وما يليه، يأتي ضمن قراءة لكتاب "الاشارة في تدبير الأمارة" لأبي بكر الحضرمي المرادي، ولا اعتراض على طرح السؤال، لماذا الاهتمام بالفكر السياسي الذي بني تصوره على دور المستشار في التدبير السياسي؟
لأن التدبير السياسي اليوم، لا يحتاج الى تفكير سياسي توجيهي احادي، يسند اليه التنظير في السياسة الداخلية، والسياسة الخارجية، والاستقلال الوطني، والتحرر من التبعية السياسية والثقافية والاقتصادية، وتوجيه السياسة الخارجية..
ولأن التنظير السياسي السابق في هذا " التدبير" لا يقدم برنامجا بمنهجية، ونظرية في علم السياسية، ولهذا يرى البعض، أنه لا يساوي قيمة الوقت للاطلاع عليه، حتى للسلية الذهنية، لأن السياسة في مجتمعات اليوم، هي : موجهة بالفكر السياسي، الايديولوجي، والفكر الحقوقي، وقبل ذلك مطالب الشعوب التي، تدعو، إما للتمسك بالنظمة السياسية، او الثورة عليها واسقاطها في عديد الاستجابات المعبرة عن نضج الوعي الوطني العام، ولعل ذلك من الادوار المساندة للمجتمعات الحالية في تفاعلها الذي فرضته متغيرات العصر المساندة للإرادة المجتمعية، رعما عن إرادة الحاكم، سواء أكان قوي الشخصية، او ضعيفها..
فما بالك بتجاوز، تنظير المستشار السياسي مهما، بلغت نصائحه التعليمية، و خبرته التجريبية من توجيه السياسة...
ومن هنا، فإن أي نصح بالغا ما بلغ، لا تكون له قيمة، لذلك اختفت قيمة "المستشار السياسي" بالنظر الى دوره الفاعل سابقا، الا إذا استثنينا التمسك به في الأنظمة السياسية العربية " القروسطوية" المتخلفة التي، فشلت في تجاوز وعيها السياسي المحدود، وهي في كل الأحوال تحيل الى تراثنا الفكري العربي المتجاوز في هذه الظاهرة السياسية ، ولأن الانظمة السياسية الحالية عمليا، تعيش في المزمنة التراثية، وبالتالي فهي إذ تستحضر الماضي للحاضر لقتل قيم التحديث، ولاستمرارية مظاهر التخلف السياسي، وستبقى المعركة قائمة بين انظمتنا السياسية العربية الحالية، وبين مجتعاتنا العربية ، وسند المجتمعات، يتمثل في تنامي الوعي السياسي المعاصر، بينما سند الأنظمة المتخلفة، هو الامبريالية الامريكية، وربيباتها في الغرب، والكيان الصهيوني معا فضلا عن المساند المحلي للانظمة المتخلفة في البيئات الاجتماعية العربية التي، لا تعبر عن الهوية، ولا تحسب من عناصر الأصالة، كالتمسك بالقبلية، كنظام للجماعة يعمل على تفكيك المجتمع من داخله، ويفتقد للوعي الغيري، الاهتمام بالصالح العام، لأنه يؤثر الخصوصية، الإنانية السياسية، كذلك الوعي الجهوي، و العرقي، و القطري بالنسبة للوعي القومي التنويري الذي، يستند اليه - مع القوميين - كل الانفصاليين الحاكمين والقبليين، والجهويين الكارهين له، ويوظفونه في ملء بطون مجتمعاتهم، ومد أياديهم ليل نهار طلبا للمساعدة المعنوية، والحمائية، وتوسيع قاعدة العلاقات الأخوية العربية في مختلف المجالات، وتقبل على مضض الأنظمة السياسية الكلفة المرتفعة التي تتحملها، وكذلك الحاجة لتجميع رؤساء الأقطار في المؤتمرات لتقوية ساعد هذا الأمير المتخلف، او ذاك، وهم المعاندون والمعادون للوعي القومي، والرافضون لتبعاته من مسؤولية، والتزام بقضايا الأمة العربية.. وحتى العاجز من الأنظمة السياسية العربية عن التأثير على غيره، يلجأ إلى" الوسيط" الذي، تمثله هياكل مؤسسات الجامعة العربية، وهي شبه الميتة للدفع بالمساعدة في مجالات التربية، والتعليم، وإقامة مشاريع التنمية، وطلب الاستثمارات التجارية العربية..!
فمطالب المجتمع الموريتاني، ومواجهة تحديات العصر، تبقى لها الكلمة الفصل في تحديد الهوية الوطنية والقومية، كاللغة العربية، والمعتقد الديني، والقيم الثقافية، والاخلاقية، والجمالية..
ولا يعبر عن الأصالة الا بالصيغ الشائهة في العناوين الدعائية التي هي أقرب إلى مظهر القربة المنفوخة، فإن احتسبها العطشان مملوءة بالماء الزلال، وفتح فمها المغلق، كانت المفاجأة، والاحباط، ولا يخلو من وجه الشبه في مثل هذه المفاجأة ما جاء في مضمون كتاب " الشيخ الخليل النحوي" أطال الله عمره المسمى" المنارة والرباط" الذي راكم فيه مظاهر التخلف الثقافي نظرا لترسيخه للوعي القبلي في الثقافة الشنقيطية التي تواجه تحديا لعدم قدرتها على التكيف مع معطيات الحداثة، أو التأثر بها في مناهج البحث، والأسلوب، والرؤى التي توجه المثقف نحو المطلوب من قيم التراث لإحيائه، والمطلوب منه لتركه خاملا ميتا، كالأحداث التي تنكي جراح الصراعات القبلية، وتجزئة ثقافة المجتمع، وتقسيم مثقفيه من الشعراء الذين وزعهم الشيخ الخليل على القبائل..!
وأين هذا من قراءة الثقافة الوطنية في إطار المشترك فيما بينها والتركيز على وحدة الخصائص الفنية في الشعر على سبيل المثال، ومن ثم استخراج الخصائص الفنية المشتركة في الشعر العربي الموريتاني، والمقارنة بينها وبين ما في الشعر العربي عموما،،؟
ثم أين الاهتمام بمظاهر الحداثة في التراث الموريتاني، كمؤشر على علاقة النهضة الفكرية في القرن الثاني عشر الهجري / ١٨ الميلادي التي قادها الشعراء وعلماء الشناقة داخل القطر وخارجه، بعد التواصل والتفاعل في حقول فكر النهضة مع رجالاتها في كل من مصر، والمغرب، وساهم السناقطة في إحياء التراث، كمحمد محمود ولد التلاميذ الذي قام بتدريس النحو، وتحقيق القاموس اللغوي، وبعض مؤلفات" أبي العلاء" المعري، كما عاصر محمد حبيب الله ولد مايابى الفترة الأخيرة للنهضة الفكرية، وساهم بتحقيقه، وقراءته الاحيائية للسنة النبوية في كتابه "زاد المسلم في السنة النبوية".
وهذا النموذجان من علماء الشناقطة عاصرا مراحل النهضة الفكرية العربية منذ بدايتها، حتى نهايتها حسب المؤرخين ( ١٧٩٨-١٩٣٩م) (جورج طرابيشي في" المثقفون العرب والتراث، ص١٤".)
ولعل الباحث عن مظاهر الحداثة في التأليف، سيجدها في فكر رجالات النهضة، و منها في فكر "البرتيللي" في مؤلفه " تراجم علماء تكرور "، وغيره، لأن الولاتي، ركز في تصنيف العلماء على أساس المواقع الجفرافية على خريطة الوطن، وهذا التوزيع يتطابق مع الموجود في تصنيف، وبالتالي تأثير البيئات على بعض مدارس الأدب العربي في كتاب "شوق ضيف" رحمه الله تعالى..
وعلى رأي بعض الكتاب، أن اللجوء الى التراث، والاستناد الى فكره، ياتي لضرورة مواجهة تحديات الحداثة، ، لكن واجه الفكر العربي في موريتاني تحديا حداثيا، تمثل في الاقتباس على سبيل المثال ، او التأثر بالفكر الفرنسي على وجه التحديد؟
إن القراءة الموضوعية، لا تقدم امثلة على التأثر بفكر الثقافة الفرنسية، ذلك أن الكتابات الموريتانية، عدا افراد أقل من عدد أصابع اليد الواحدة، كتبوا باللغة الفرنسية، الأمر الذي يحيل الى المبالغة في الحديث المفتعل عن " صدمة" الحداثة، التي تعكس ضرورة التأثر بنقل الفكر الغربي اقتباسا، وتفاعلا معه، وهذا لم يتم بعد، ولذلك فإن تصور الدكتور" موسى ولد ابنو في روايته " مدينة الرياح" ( المقتبس من عنوان رواية "مدينة الكلام" )، بثير الاستغراب من خياله الواسع في استحضاره لوعي بطل روايته خلال إشارته الى الاستكشافات الأثرية المتخيلة على قمة جبل، ولا أظن أنه قد حصل استكتشاف أثري عدا الذي، جرى في مدينة "كومبي صالح"، وهي في الصحراء، وليس على جبل، وتم التنقيب الأثري في فترتين متباعدين ١٩١٣ و ١٩٧٦م .
أما إذا كان قد قصد الإشارة الى "جبل الحديد" القريب من مدينة ازويرات، واستخراج خام الحديد منه، فلعل الدكور موسى ولد ابنو، يعلم اكثر من غيره بأن "جبل الحديد" كان معروفا في البيئة الاجتماعية لمجتمعه في الشمال، كما كان معروفا في كتب التاريخ، منذ أن ارسل القائد المجاهد "يوسف بن تاشفين" رحمه الله، الى جبل الحديد فريقا من الحدادين لصناعة السيوف قبل معركة" الزلاقة" الشهيرة.
لذلك نجدد التأكيد على أن رواية "مدينة الرياح" غير معبرة عن واقع ثقافي للتعبير عن الرمزية للأحتكاك الثقافي الذي، استهل به الروائي عمله الفني، حين استحضر دور علماء فرنسا في الاستكشافات الأثرية في مصر، الأمر الذي اعطى مبررا لأصحاب الداعية المجانية لتغطية بشاعة الاحتلال الفرنسي بواجهة علمية، وثقافية، لدورهما في الاحتكاك الثقافي بفكر الغربي الذي اوجد اساطين في الفكر ابتداء من "رفاعة رافع طنطاوي" الى " سلامة موس" و، "وطه حسين" ، وتوفيق الحكيم"، و انطلاق تيار حركة الابداع الفكرية التي عكست في حركتي الترجمة، والتأليف، ثم الإنتاج الفكري..
ولا نجد مثل ذلك، أو شبيه به في موريتانيا، لأن الاحتلال الفرنسي وجد أمامه مجتمعا رعويا محدود الكثافة، ولذلك اقتصر على نهب الثروات في شتى مجالاته العينة كحيوان، والنقدية، ك" العشر"، والصمغ للعربي، واستخراج خام الحديد، والثروة السمكية..
و لم يشيد الاحتلال مدنا حضرية، بل مراكز عسكرية ك"تجكجة" ، و"كيفة" وغيرهما، ولم يفكر الاحتلال في بناء عاصمة سياسية، وثقافية، كما لم يبن مؤسسات تعليمية خلال نصف قرن من احتلاله تتجاوز الابتدائية والاعداديات، ومعهد" ابي تليميت" ، ولم يبن مكزا ثقافيا..
والى حد الآن لم تظهر حركة فكرية قادرة على نقل المشروع الثقافي الفرنسي.
و اقتصر الحضور الفرنسي على تكوين طاقم إداري، حافظ على فرنسة الإدارة، والتركيز على مأسسة النظام السياسي في مؤسستي: الأمن، والجيش، وتبعيتهما..
وكأنهما وجدتا لقمع مظاهر الحداثة نظرا لمواجهما للحراكات السياسية الناتجة من تنامي الوعي السياسي خلال مراحل التعليم، وانتشاره،،
ومن مظاهر قمع المؤسستين المذكورتين، للحراك السياسي الوطني ما واجهته التيارات الوطنية القومية خلال ستين عاما منذ نشأ النظام السياسي في ال ١٩٦٠م.
ثم تلا مراحل القمع، والسجون والعذيب محاولة" الديمقراطية المعلبة"، وتبني الفصل الصوري للمؤسسات التشريعية، والقضائية والتنفيذية، وذلك لاستبدال قوى الوعي السياسي الوطني بالاحزاب القبلية، والجهوية، والفئوية، والعرقية،و ذلك من اجل تفريغ الوعي السياسي" المبدئي" في الحراك السياسي، واستبداله بالاحزال الاستنفاعية التي يبحث قيادتها عن نصيبها من غنيمة الفساد المالي المستشري..
فغاب عن الواجهة الدور المنتظر من تأثير مستجدات العصر في العلوم، والصناعة، وحركة المواصلات، و ثورة المعلوماتية..
بينما ارتفع صدى الدعاية للحداثة على أساس تبني مظاهر الاستلاب الثقافي، واستيراد المعايير التي تمثل غسيل الاخلاق لناشئة المجتمع الموريتاني وغيره من المجتمعات العربية التي قاومت الاستلاب، والقيم اللادينية الغربية سواء أكانت مستقدمة من امريكا والغرب، او من الصين التجارية..
واخيرا:
ليكن واضحا للقراء الكرام، أن تقديم هذا النموذج من الأدب السياسي لنظام حكم " المرابطون"، نقوم به على أساس الاطلاع عليه، لكونه، عكس وعيا متقدما على عصره للمستشار السياسي في "التدبير "، ولا شك انه ساعد على تأسيس نظام الحكم في ذلك العصر، لكن ذلك لا يدعو النظر اليه على، أنه فكر ملائم لمجتمعنا الموريتاني الحالي، لأنه لا يستجيب لمطالب العصر في تشكيل النظام الاجتماعي العام على أسس حداثية، و لا يقدم تصورا مكتملا لمؤسسات للنظام، أو الخروج من " قمقم " الوعي القبلي، و العرقي التباغضي الذي كان سائدا من قبل في القرن الرابع الهجري/ التاسع ميلادي، كما ذكره "ابن حوقل " في كتابه" صورة الأرض"..
ولا شك أن الاحتلال البرتغالي في القرن الخامس عشر (١٤٤٢- ١٤٥٣م) أدى إلى حرب ضارية، قادتها حركة مقاومة قوية في الحواضر التي دمرتها الحروب، وقضت على الحركة العمرانية، وفككت الوحدة الاجتماعية الحضرية، وبالتالي الهجرة منها الى المناطق النائية في الصحارى، والمرتفعات الجبلية، وخلقت ظروفا أدت إلى استئناف حياة البداوة، والتركيز على النشاط الرعوي، والتنقل وراء الكلإ، وظهور التحالفات بين الجماعات لتعزيز قوانين الحياة الاجتماعية، واقصد بذلك التعاون - على راي ابن خلدون - ، والتضامن الاجتماعي على رأي علماء الاجتماع المعاصرين.
وخلال خمسة قرون، اخذت التحالفات طابع الانتماء القبلي، ووالمظاهر الفئوية في مختلف الاعراق التي كون بعضها انظمة سياسية مستقلة، تغلبت على باقي التجمعات، كمملكة" تكرور"، وإثارة "فوتا" والأخيرة حكمت طيلة اربعين سنة في القرن الثامن عشر، كما قامت اربع امارات عربية، حاربت الاحتلال الفرنسي، وبعضها صالحه، الأمر الذي ساعد على اخضاع المجتمع العام لنفوذ الاحتلال الفرنسي منذ ١٩٠٣م، حيث ظهرت سجلات إدارية، إيذانا بالسيطرة الكاملة على الوحدتين الديمغرافية، والجغرافية.
إن أهمية القراءة مجددا لفكر ابي بكر الحضرمي، تاتي لاظهار مؤشرات الوعي السياسي، وتكوينه لرؤية سياسية، مكنت من إقامة نظام سياسي، يمكن النظر الى فكره كموجه للتدبير الذي ساعد على تماسك وحدة المجتمع، وتجاوزه للنظام القبلي التفكيكي حينئذ، والدليل على تجاوزه للنظام القبلي، هو عدم الإشارة اليه في الكتاب خلال فصوله الثلاثين..
فكيف اقترح المستشار السياسي للتدبير المذكور نظاما سياسيا، وقد وزعه على فصول الكتاب دون، أن يتطرق للبناء الاجتماعي القبلي، او كان قادة النظام مستعدين لمهادنته، والاعتراف به في التغيير الاجتماعي المطلوب..؟
(يتبع)