المعارضة السياسية .....وكيفية التعامل : رؤية شرعية / محمد محمود ولد الجودة

altكان العالم العربي قبل التغيير الذي احدثته الثورات الأخيرة يوصف بأنه عنق الزجاجة أو النفق المظلم أو للعنة الأبدية والناظر إليه يقول إن جيل التغيير لم يولد بعد .

وكانت المعارضة الموجودة في الدول العربية مجموعة من الأحزاب التى طال عليها الأمد لاعمل لها ولا فائدة منها إلا المشاركة في انتخابات تعلم مسبقا انها الفاشل فيها.

وفي اثناء الربيع العربي  وبعده تبين أن للمعارضة مشاركة في التغيير وفي البناء وهو أمر يستدعي من الباحثين الاهتمام بها وهو سبب هذه الأسطر التي تتحدث عن :

1ـ مفهوم المعارضة

2ـ المبررات الشرعية لقيام المعارضة

3ـ اهمية المعارضة

4 ـ حكم المعارضة

5ـ كيفية التعامل معها

                                    ـ أولا المفهوم

المعارضة لغة:مشتقة من مادة عرض وهي تعني المعارضة على سبيل الممانعة تقول عارض فلانا في كلامه : أي ناقضه في كلامه وقاومه وعارضه أي جانبه وعدل عنه والإعراض عن الشيئ الصد عنه  (اللسان 2/168)

وفي المعجم الوسيط :عرض له عارض من الحمى اصابه ويقال سار فعرض له في الطريق عارض من جبل ونحوه :مانع (المعجم 2/ 599)

ويقول الجرجانى : المعارضة هي المقابلة علي سبيل الممانعة  (التعريفات ص 274)

والمتتبع لمادة عرض في كتب للغة وهي التي اشتقت منها المعارضة سيجد انها لها معان كثيرة تدل عليها اهمها ما يلي

ـ المنع فكل مانع من تحقيق الغرض فهو عارض  

 ـ  مجانبة الآخرين والعدول عنهم

ـ المقابلة ومنه معارضة الكتاب بالكتاب أي مقابلته ومدارسة جبريل رسول لله صلي لله عليه وسلم القرآن تسمي المعارضة لأنه يقابل حفظه علي حفظه

وغير ذلك من الدلائل لهذه الكلمة والمتمعن فيها يري بأنها معان متقاربة وكلها تجتمع في جوهر واحد هو (المواجهة والمخالفة والمنع والتحدي ) (جابر قمحية /51 )

ـ اصطلاحا

والمعارضة بهذا للفظ في الجانب السياسي لم تكن معروفة عند المتقدمين ولما ظهرت في الأزمنة المتأخرة عرفها الباحثون بتعريفات مختلفة ومتباينة فيما بينها فقد عرفت المعارضة في الموسوعة السياسية بأنها : الأشخاص والجماعات والأحزاب التي تكون معادية كليا أوجزئيا لسياسة الحكومة  (الموسوعة 1/623)

ويري بعض الباحثين ان المعارضة لها معنيين أحدهما عضوي أوشكلي ويقصد به الهيئات التي تراقب الحكومة وتنتقدها وتستعد للحلول محلها,والآخر مادي وهو النشاط المتمثل في رقابة الحكومة وانتقادها والاستعداد للحلول محلها (الدولة في ميزان الشريعة ص /270 )

إلا أن المستقرئ للكتب السياسية التي عرفت المعارضة من الناحية الاصطلاحية يرى بأنها انطلقت من انها تعني العداوة والتنافس وشيئا من الحقد الدفين بين الطرفين المتنازعين والنظرة الإسلامية للمعارضة تخرجها عن هذا المفهوم فهي تعني النصيحة والحب والتعاون على المصلحة العامة ولهذا في الفقه الإسلامي المعارضة ليست هدفا يقصد لذاته ـ تعارض من اجل ان تعارض ـ وإنما هي وسيلة تقوم علي ركنين اساسين المطالبة بالإصلاح والمراقبة فإذا تحقق الإصلاح واتفق  اهل الحل والعقد بأنه موجود لم يبقي للمعارضة حينئذ إلا المراقبة .

وعليه يمكن تعريفها بأنها: المجموعة التي تمثل الوحدة والتوحد والوقوف صفا واحدا متراصا في مقابلة الأخطار التي تعاني منها الدولة والشعب وتبحث عن المصلحة العامة بعيدا عن الفئوية والحزبية وتسعى لإتاحة الحريات العامة وتحقيق العدل والمساواة .

ـ المبررات الشرعية لوجود المعارضة والمشاركة فيها

لم يكن لفظ المعارضة السياسية موجودا في الفقه السياسي الإسلامي بهذا التعبير  وكانت هناك مصطلحات شرعية تمارس المعارضة من خلالها وباسمها والتي يعبر عنها تارة بالنصيحة للأ مراء وتارة بالأمر بالمعرف والنهي عن المنكر وتارة بقول الحق امام السلطان الجائر.

ـ فمن اهم المبررات الشرعيةلوجود المعارضة في زماننا انها هي الوسيلة التي يتم  بها الضغط علي الحكام من اجل تحقيق العدل والقيام بالقسط بين الناس وهو الأمر الذي قامت به السماوات والأرض وبعث لله الرسل من اجله يقول بن القيم رحمه لله تعالى :إن لله أرسل رسله وانزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض إذا ظهرت أمارات الحق وقامت أدلة العقل وأسفر صبحه بأي طريق كان فثم شرع لله ودينه ورضاه وأمره .........ولله تعالي لم يحصر طرق العدل وأدلته وأماراته في نوع واحد وأبطل غيره ..............فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذاتها وإنما المراد غاياتها التي هي المقاصد . (إعلام الموقعين 4/373)

ـ ومن المبررات كذلك أن المعارضة للحكام داخلة في النصيحةالتي حصر النبي صلي لله عليه وسلم الدين فيها حين قال الدين النصيحة وذكر من ذلك النصيحة لأئمة المسلمين .

ومنكر الحكام من اخطر المنكرات ضررا لأن لله يؤاخذ به الجميع إذا سكتوا عليه وفي الحديث إ ن لله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى تعمل الخاصة بعمل تقدر عليه العامة ان تغيره ولا تغيره فذلك حين يأذن لله تعالى في هلاك العامة والخاصة (أحمد 17267 الطبرانى 138/17)

قال المبارك فوري معلقا علي الحديث يصيبكم عامة بسبب مداهنتكم (تحفة الأحوذى 329/6)

والمشاركة في إزالة هذا المنكر من افضل العبادات لأنها تترتب عليها مصالح العباد وخصوصا الضعفاء من المسلمين.

ـ ومن المبررات كذلك :تحمل المسئولية التي لم يعف منها مسلم علي الإطلاق فالله عز وجل خلق الخلق لعبادته (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَإِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وعرض عليهم الأمانة فامتنعوا من حملها وحملها الإنسان كما قال تعالى (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَأَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) وأرسل الرسل من اجل توضيح الأمانة ومعالمها وإيصالها للناس كافة كما قال تعالى (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِمَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) وهي تتمثل في الدين الذي جاء به الأنبياء وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم ولا يمكن حمل بعضه دون بعض

 وقد أعلن النبي صلى لله عليه وسلم ذلك وهو في بداية دعوته قبل تأسيس الدولة حين كان يعرض نفسه علي القبائل فقال لقبيلة بني شيبان إن دين لله لن ينصره إلا من احاطه من جميع جوانبه (الثقات بن حبان 1/70)

وقد اعلنها مفتي الجمهورية حينما أراد البعض أن تكون السياسة والمشاركة فيها ليست من صفات المومنين الصادقين وأشيع عن طريق التعمد أنها فن الكذب ولايشتغل بها إلامن كان من اهل التملق والنفاق فقال عليه رحمة لله ورضوانه :دين بلا سياسة لا يستقيم وسياسة بلا دين عار الدنيا ونار الجحيم

ولما قرء الدكتور الريسونى أطال لله في عمره كلاما ينسب تارة إلي مالك وتارة إلي الشافعي من تفقه ولم يتصوف فقد تفسق ومن تصوف ولم يتفقه فقد تزندق ومن جمع بينهما فقد تحقق .

فقال هو على منواله : من تدين ولم يتسيس فقد ترهبن ومن تسيس ولم يتدين فقد تعلمن ومن جمع بينهما فقد تمكن .

فالمشاركة في المعارضة والتعاون عليها داخل تحت قوله تعالي  (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ)

ـ أهمية المعارضة

أن كثيرا من شعوب العالم يقضي أكثر أيامه في ظروف صعبة يسودها القمع والكبت من طرف الأنظمة الدكتاتورية وما ذلك إلا بسبب عدم وجود المعارضة المنظمة التي حملت علي عاتقها هم الوطن والمواطنين

والنا ظرفي المعارضة المنظمة يري بأن أهميتها تتمثل في ثلاثة أمور

ـ ضمانة ضد هلاك الدولة

فوجود المعارضة المطالبة  بالإصلاح سبب لعدم هلاك الدولة  لأنه إحياء للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في باب قد مات فيه منذ عقود ورسول لله كان يحدث اصحابه عن هلاك الأمم قبلهم وعن سبب هلاك هذه الأمة وأكثر الأحاديث الواردة في ذلك تتعلق بالمنكر العام الذي يظهر في الأمة وتسكت عليه من ظلم ونحوه (إذا رأيت أمتى تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منها) أحمد 2/163

ـ ضمانة ضد استبداد الحاكم

وخصوصا في هذا الزمن الذي ضعف فيه الوازع الديني والوازع الإنساني لدى كثير من حكامنا وكثر فيهم الهلع والجشع ولأنه من المعروف قديما عند كل الفلاسفة والسياسيين أن استبداد الحكام وظلمهم ولعبهم بثورات المواطنين ليس أمرا وراثيا ولا قدرا نزل على شعوبهم من السماء  وإنما هو أمر تقبله الشعوب أو ترفضه فقديما قيل لفرعون من فرعنك قال الناس

والقرآن الكريم ذم بني إسرائيل بسبب أنهم قبلوا ظلم فرعون وإهانته  لهم(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ)

ـ ضرورة للارتقاء بالدول المتخلفة

لأنها تطالب وتسعى وراء إماتة السنة الفرعونية والتي تتمثل في حكم الحزب الواحد والرأي الواحد وهي السر وراء تأخر الدول العربية اليوم لأن كثيرا من العقول غيب عن مكان القرار والتأثير بسبب هذه السنة المقيتة (قَالَ فِرْعَوْنُ مَاأُرِيكُمْ إِلَّا مَاأَرَى)

وتريد إحياء السنة السياسية التي طالب بها الخلفاء الراشدون لأهميتها وهي المفتاح الأساسي الذي انتشر به العدل في القرون الأولى وانتصر به الصحابة في وقتهم على اعظم الدول ـ فارس والروم ـ وهي الشورى وهي التي تضمن الصواب في اتخاذ القرارات ومشاركة كل العقلاء في بناء الدولة وآخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها 

ـ حكم المعارضة

إن الناظر في الفقه الإسلامي يرى بأن المعارضة للحكام اختلفت احكامها باختلاف مراحل الأمة في تاريخها وطبيعة من يحكمها

فنرى في مرحلة الخلفاء الراشدين وهم فقهاء الأمة وقدوتها أن المعارضة كانت مشروعة وهم أول من طالب بها فقد ثبت عن الصديق أنه قال فإن أحسنت فأعينونى وإن أسأت فقومونى وثبت عن الفاروق رضي لله عنه أنه قال  إن رأيتم في اعوجاجا فقوموه فقام إليه أحد الأعراب قائلا بكل حرية وأمان لو رأينا فيك  اعوجاجا لقومناك بحد سيوفنا

كما ثبت عن أمير المؤمنين علي بن ابى طالب  انه خطب الناس فقال : فلا تكلموني بما تكلمون به الجبابرة ولا تظنوا  بي استثقالا لحق يقال لي أو لعدل يعرض علي فإن من استثقل الحق ان يقال له والعدل ان يعرض عليه كان العمل بهما عليه اثقل فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل فإني لست اعلي من الخطإ

لكن نري بأن هذا الخطاب والمطالبة بالمعارضة لم يطل في تاريخنا  ففي عهد قريب من عهد الراشدين كان خطاب الحاكم قد تغير ومنع المعارضة فهاهو عبد الملك بن مروان يقول في خطبته في مكة إني ولله ما أنا بالخليفة المستضعف يريد عثمان بن عفان ولا بالخليفة المداهن يريد معاوية بن أبي سفيان ولا بالخليفة المأفون يريد يزيد فمن قال لنا برأسه كذا قلنا له بسيفنا كذا ثم نزل (العقد الفريد 401/1)

وكان واليه الحجاج بن يوسف الثقفي يري تكفير الخارج عن السلطان وطرده من الملة ويري كذلك ان كل ما قام  به في سبيل السلطان من قمع المعارضين وقتل بعضهم هو في سبيل لله يرجو ثوابه عنده

بتغير خطاب الحاكم ومعاملته للمعارضة  تغير الحكم في رأي كثيرمن فقهاء ـ عصور التراجع الحضاري والتغلب السياسي ـ (وصف : لمحمد عمارة)  

واضطروا إلي تأويل احاديث لم يؤلها ابو بكر ولا عمر ومن في زمنهم فمنع بعضهم المعارضة واستند علي احاديث حرفها وأخرجها عن سياقها  فاستدل بعضهم علي منعها بحديث (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصني فقد عصى الله. ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني )

ونسو الرواية  الأخرى للحديث والتي هي في صحيح مسلم ونصها (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصا الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني)

فسياق الحديث يدل علي ان المقصود أمير من الأمراء للنبي صلي عليه وسلم في احدي الغزوات ولا يعم كل الأمراء علي مر التاريخ

بل ونسوا ما هو أكثر من ذلك، وهو أن الأمير - في مصطلح عصر النبوة - هو أمير الجيش وقائد القتال.. وليس الوالي والعامل ورئيس الدولة!. ولطاعة أمراء الحرب في القتال مقتضيات ومقاصد وآليات مختلفة تماما عن شورى ومراقبة ومحاسبة ومعارضة الحكام في شئون السلم والعمران!.....إلي غير ذلك من الاستدلالات الباطلة وتحميل النصوص مالاتتحمل

 ويمكن أن يقرأ هذا الموضوع والزيادة في النصوص والرد عليها  في موسوعة الإخوان علي هذا الرابط 

وحقيقة حكمها أنها من افعال المكلفين التي الأصل فيها الإباحة وتعرض لها الأحكام الشرعية الأخرى الوجوب والحرمة والكراهة

فتكون المعارضة واجبة إذا كانت من اجل الغضب لحدود لله من ان تنتهك أو للشريعة من ان تخالف أو تأكد لدي الفرد أن الحاكم اومن ينوب عنه يقوم بمنكرات ربما تكون سببا لهلاك الشعب أو إفساد ثروات البلد لأن المحافظة على المصلحة العامة من الهلاك والضياع من اهم الواجبات في الإسلام.

ـ وتأخذ المعارضة حكم الندب فيما إذا كانت الدولة الإسلامية نشرت العدل بين الناس وحرصت علي الضروريات التي يحتاجها الشعب وبقيت عليها بعض الكماليات فتندب المعارضة من اجل تحسين ظاهر الدولة .

ـ وتكون المعارضة لها حكم الحرمة إذا كانت ترفض حكما من احكام لله أو تعترض علي أمر من الأمور التي جاء بها رسول لله صلي لله عليه وسلم لأن مثل هذه الأمور لاتحتمل المعارضة .

ـ وتنال حكم الكراهة في  حالة ما إذا وقع الحاكم في امر يستوجب الإنكار عليه ولكن ظروف الدولة لاتسمح بوجود رأي آخر بسبب مجاعة او حرب أو عدم استتاب الأمن مثلا فإن المعارضة في هذه الحالة تتريث وتنظر في اخف الضررين الصبر علي الحاكم حتى  تمر هذه الفترة  أو الإنكار عليه و تحكم القضية  بفقه المرحلة .

ـ كيف يتم التعامل مع المعارضة :

من المعروف في التاريخ الإسلامى أن أول معارضة وجدت يمكن ان توصف بأنها معارضة منظمة لها مطالبها وأهدافها هي المعارضة في زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي لله عنه وأرضاه 

وقبل ذلك وجدت معارضة من افراد كما وقع لسعد بن عبادة مع الصديق وكانت معارضة فردية صامته أومن جنود كما وقع للجيش الإسلامي بعد الفتوحات في زمن عمر وكانت معارضة قوية حتى كان عمر يسأل لله ان يعينها على اهلها ثم حسم امرها بعد ذلك بالمشورة .

ولذلك سنقف مع المعارضة في زمن عثمان رضي لله عنه وكيف تعامل الخليفة الراشد مع مطالبها والمشاكل التي رفعتها وكيف شارك كبار الصحابة في إيصال  هذه المطالب إلي الخليفة ودخلوا في المشاورة معه مما يلزم العلماء في كل زمان ومكان أن يتحملوا هذه المسئولية وينظروا في المطالب التي ترفعها المعارضة ويكونوا واسطة بين الأطراف حفاظا علي المصلحة العامة للبلد .

والناظر في هذا التعامل يري بأنه مر بمرحلتين اساسيتين

ـ المرحلة الأولي : تعامله مع المعارضة وهي لم تنتظم بعد ولم تصل إلي عاصمة الدولة الإسلامية لكنها استعملت وسائل الإعلام في بلدانها وأشاعت الأمور التي تريدها وتلاحظها على الخليفة حتى وصل امرها وخبرها إليه .

ـ المرحلة الثانية: تعامله معها بعد أن انتظمت وتجمعت من ولايات اسلامية متعددة وانتقلت من أماكنها للقاء الخليفة .

ـ المرحلة الأولي

اـ التحقق مما تقوله وتطالب به

فأول ما فعله عثمان رضي لله عنه بعد ما بلغه التذمر في بعض الأقاليم والشائعات التي تقال عنه وعن حكمه  هو انه أرسل رسله لتقص الحقائق فأرسل عمار بن ياسر إلي مصر ومحمد بن مسلمة للكوفة وأسامة بن زيد للبصرة وعبد لله بن عمر للشام ليتأكدوا له مما يقال ويشاع  

 

بـ الاجتماع بالولاة والوزراء والتحقق مما يقال في جهة كل واحد منهم

فقد بعث عثمان إلي ولاته علي الأمصار ليتحقق مما يقال ويشاع عنهم من الظلم فقدموا عليه عبد لله بن عامر من البصرة  ومعاوية بن ابي سفيان من الشام وعبد لله بن سعد من مصر ومروان كان في المدينة وأدخل معهم عمرو بن العاص

فقال : ويحكم ماهذه الشكاية وما هذه الإذاعة إني ولله لخائف ان تكونوا مصدوقا عليكم وما يعصب هذا إلابى فقالوا له الم تبعث ألم نرجع إليك الخبر عن القوم الم يرجعوا ولم يشافهم احد بشيئ لا ولله ما صدقوا ولا بروا ولا نعلم لهذا الأمر اصلا وماهي إلا الإذاعة لا يحل الأخذ بها ولا الانتهاء إليها ..........(الطبري 2/620)

ج ـ الاجتماع بالبرلمان والتراجع عن الأخطاء

فقد اجتمع عثمان رضي لله عنه بالبرلمان والذي كان يمثله في ذلك الوقت اهل الشورى الذين عينهم عمر بن الخطاب وهم طلحة وسعد وعلى والزبير للتشاور معهم في المستجدات والتذمر الذي بدء في بعض الولايات الإسلامية ومن اسبابه التي أشيعت أن الخليفة اعطى بعض اقاربه كثيرا من الأموال ـ وهو رضى الله عنه كان رجلا غنيا وقد اعطي بعض اقاربه من ماله لا من مال الدولة ـ ومع ذلك لما اجتمع بالبرلمان اعتذر لهم عن الأموال التي اعطاها اجتهادا منه وقال (رأيت ان ذلك لى فإن رأيتموه خطئا فردوه فأمري لأمركم تبع قالوا اصبت وأحسنت قالوا أعطيت عبد الله بن خالد بن أسيد ومروان وكانوا يزعمون أنه أعطي مروان خمسة عشر الف وبن أسيد خمسين ألف فردوا منهما ذلك وخرجوا راضين (الطبري 2/650)

د ـ الاستجابة لطلبات الشعب

فالوالي هو الممثل الشرعي  للحاكم ولما تحرك أهل الكوفة وطالبوا بخلع الوالي عنهم وهو سعيد بن العاص خلعه عثمان رضي لله عنه لأنه يعلم ان الشعب لا ينبغي ان يحكمه ويتولى أمره إلا من يريده وكتب إليهم في ذلك كتابا قال فيه : أما بعد فقد امرت عليكم من اخترتم وأعفيتكم من سعيد ولله لا تدعوا شيئا احببتموه لا يعصى لله فيه إلا سألتموه ولا شيئا كرهتموه لا يعصى لله فيه إلا استعفيتم منه أنزل فيه عندما احببتم حتى لا يكون لكم علي حجة (الطبري 2/644)

ه ـ تحرك العلماء والدعاة وأهل الشأن من اجل التحقق

وهو ما يثبت من هذا الخبر الذي رواه عمرو بن دينار قال : لما ذكروا من شأن عثمان الذي ذكروا أقبل عبد الرحمن بن عوف في نفر من اصحابه إلى عبد لله بن عمر فقالوا يا أبى  عبد الرحمن ألا تري ما قد احدث هذا الرجل فقال بخ بخ ...   (بن ابي شيبة في المصنف 37692)

ـ عثمان والموقف من القمع

في الفقه السياسي الإسلامي لا مكان لقمع المعارضين الذين يطالبون بالحقوق المشروعة والمساواة بين ابناء الدولة لأن

رسول لله صلي لله عليه وسلم وهو في بداية بناء الدولة وجد معارضة قوية من حزب عبد لله بن أبي ومن معه من المنافقين وكان خطرها على الدولة الإسلامية واضح ومع ذلك لما استشير النبي صلي لله عليه وسلم في قتلهم قال ......لا بل نحسن صحبته لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه (البخاري  ح/3518)

 بهذا الفقه السياسي ربي محمد صلي لله عليه وسلم اصحابه ومنه  أخذ عثمان موقفه من قمع المعارضة لما استشاره أمير مصر عبد لله بن ابي السرح في ان يعاقب عمارا ومن معه من قادة المعارضة في مصر  فقال له عثمان : بئس الرأي رأيت من أن  آذن لك بعقوبة عمار وأصحابه فأحسن صحبتهم ما صحبوك فإذا أرادوا الرحلة فأحسن جوازهم وإياك ان يأتيني عنك خلاف ما كتبت إليك (تاريخ المدينة 3/1123)

بهذا التعامل الحضاري الراقي عامل عثمان المعارضة ووقف من القمع موقفه الواضح وحذر واليه من قمع من هو في حوزته من رجال المعارضة وأمره ان يحسن صحبتهم ماداموا معه فإذا أرادوا الرحيل فليحسن جوازهم 

ـ عائشة والموقف من القمع

تأتي وسيلة إعلامية كاذبة توصل خبرا إلى أمنا أم المؤمنين عائشة رضي لله عنها مفاده أن عثمان قتل المعارضين الذين قدموا إليه من مصر فتقول أمنا كلاما يؤخذ منه رأيها في المعارضة وموقفها من القمع .

قالت :إنا لله وإنا إليه راجعون : يقتل قوما جاءوا يطلبون الحق ويرفضون الظلم ولله لا نرضى بهذا (الطبري 3/7)

ـ المرحلة الثانية

المعارضة الآن قد انتظمت في ولايات مختلفة مصر والعراق وتمت المواصلات فيما بينها وحددت وقتا لخروجها إلي عاصمة الدولة الإسلامية للاجتماع بالخليفة وكان يتزعمهم جماعة من الصحابة عبد الرحمن بن عد يس البلوي وهو ممن بايع النبي صلي لله عليه وسلم تحت الشجرة وعدي بن حاتم الطائي وعمر بن  حمق الخزاعي وجندب بن زهير الغامدى وجندب بن كعب الأزدي

وكان معهم من كبار التابعين من سادات العرب وقرائهم لأشتر النخعي وكميل بن زياد وعمر بن الأصم ومحمد بن ابي بكر فهذه جماعة من الصحابة والتابعين كانت تمثل المعارضة السلمية التي لها مطالبها وأهدافها

فما كان  من عثمان رضي لله عنه إلا أن استقبلهم  احسن استقبال وجلس معهم على طاولة الحوار وسألهم عن اعتراضاتهم وبلغ به الأمر رضي لله عنه أن قال لهم إن وجدتم أن تضعوا رجلى في قيد فضعوها (تاريخ بن خياط 171)  

وفي رواية (هاتان رجلاي إن وجدتم في كتاب لله عز وجل أن تضعوهما في القيود فضعوهما (بن حبان 6919) 

ثم دعي عليا وجابر بن عبد لله للحضور للاجتماع مع المعارضة والسماع منها وكانت مطالبها تتمثل في الآتي

اـ المساواة بين اهل المدينة وغيرهم في العطاء                                                                          قال عثمان ما تريدون قال ألا يأخذ اهل المدينة عطاء  فإنما هذا المال لمن قاتل عليه ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب محمد صلي لله عليه وسلم  (الطبري 2/655) 

ثم وقع الاتفاق على وثيقة سياسية  بين فيها المعارضة بحضرة علي بن أبي طالب

وكان جابر بن عبد لله شاهدا عليها ومفوض من قبل أمير المؤمنين عثمان فقال لهم علي بن ابي طالب تعطون كتاب لله وتعتبون من كل ما سخطتم فأقبل معه ناس من وجوههم فاصطلحوا علي خمس أن المنفي يقلب والمحروم يعطى ويوفر الفيئ ويعدل في القسم  ويستعمل ذو الأمانة والقوة وأن يرد بن عامر علي البصرة وأبو موسي علي الكوفة وكتبوا بذلك كتابا (بن خياط 169)

والناظر في هذه الوثيقة يري بأنها تضمنت الأمور التالية

اـ الالتزام بالمرجعية الدستورية والقانونية للدولة في الأمور العامة وهي الكتاب والسنة 

ب ـ استعمال ذو القوة والأمانة في الوظائف العامة (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)

ج ـ المساواة والعدل بين الرعية في العطاء

د ـ عدم إعطاء المال العام إلا لمستحقه

ه عدم حرمان المعارضة أو أحد أفرادها من حق يستحقه

وـ أن يرد عثمان الولاة الذين عزلهم والناس يريدونهم

وقبل الخليفة الراشد رضي لله عنه مطالب المعارضة ووقع علي هذه الوثيقة ثم تكلم بعد ذلك وشكر المعارضة وبين فضلها فقال :ما رأيت ركبا خيرا من هؤلاء ولله إن قالوا إلا حقا وإن سألوا إلا حقا  (بن ابي شيبة في المصنف 7/520)

في تعامل حضاري رفيع تحتاج إليه أمتنا اليوم في وقت تعود الحكام فيه على قمع المعارضين والمطالبين بأبسط الحقوق ووصفهم تارة بالجرذان وتارة بالعجزة .

وكان كل هذا قبل ظهور الأيادي الخبيثة التي ظهرت بعد ذلك

استرشد الغرب بالماضي فأرشده      ونحن كان لنا ماض نسيناه

يتواصل...

19. مايو 2013 - 16:35

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا