مؤخرا بدأت قضية "الصحراء الغربية" تتصدر بعض المواقع الأخبارية بعد نجاح بعض المطالبين أو "المستغلين" للوضع المتأجج والمتأزم سياسيا بين الشرعية المغربية والمطالبة الجزائرية في الأقاليم الجنوبية من الساقية الحمراء وواد الذهب...
قد أكون محظوظا لأني سافرت أكثر من 100 مرة في تلك الربوع ودرستها وخبرتها جيدا. سافرت بكل الوسائل المتاحة من وجدة وحتى بير كندوز مرورا بأكادير وفاس ومكناس وسيدي سليمان وقنيطرة والرباط والدار البيضاء وسطات ومراكش وتيزنيت وأكادير وانزكان وسيدي ايفني وكليميم وآخفنير والطنطان ولعيون والمرسى و السمارة وبوجدور و اوسيرد والداخلية والعرقوب ودكمار . مع العلم أن الأقاليم الجنوبية تبدأ جغرافيا من أكادير ولكنها سياسيا تختصر على مابعد الطرفاية، أي اكليميم والطنطان وآخفنير ولعيون وبوجدور والداخلة والمرسى وحتى بير كندوز...
كل هذه المدن والقرى والتجمعات السكنية متجانسة ومكتملة البنى التحتية وتعيش تحت السيطرة الكاملة للمملكة المغربية وفيها حضور مكثف للجيش المغربي (لمخازية) و (السيمي) وكل شعوبها تعيش في رفاه وتستمتع بدعم حكومي معتبر على البضائع والمواد الإستهلاكية، خصوصا في الأقاليم الجنوبية، ويعيش الإنسان الصحراوي هناك في مدن متطورة من حيث المعمار والشوارع والتخطيط الحضاري...
على الرغم من كل هذا تجد بعض الشباب المتعاطفين، بغير وعي، مع مايسمى بالقضية الصحراوية أو الإستقلال التام عن المغرب الذي تنادي به بعض الفرق المتناحرة والتي هجرت أرض تيندوقف الجرداء لتجعل من مدينتي أزويرات ونواذيبو في موريتانيا ملاذا لأحلامهم وقلعة يطالبون منها بالثورة وتحريك الشباب...
إن من يطلقون على أنفسهم "الثوريين الصحراويين" ليسوا الا بعض المرتزقة الذين لايعترفون بالجميل لا للمغرب التي جعلت منهم دولة ولا لموريتانيا التي آوتهم ومنحتهم الأوراق الثبوتية والجنسية...
إن المطالبين بإستقلال الصحراء يعيشون على حلم ضائع لن يتحقق ولن يتجسد على أرض الواقع بقدرما سيظل سرابا تلهث خلفه الجزائر ويستمتع المجتمع الدولي بقتل الوقت، بدل الضائع، من خلال ما يسمى بالمفاوضات...
لكن، لو افترضنا جدلا ان هناك دولة مستقلة تسمى "الصحراء الغربية"، اين ستكون حدود هذه الدولة؟ وماهي مقوماتها الديمغرافية والإقتصادية؟ وهل ستدعمها الجزائر في النهوض وهي العاجزة أصلا عن توفير العيش الكريم لملايين "الحينطيست"(عبارة تطلق في الجزائر على الشباب العاطل عن العمل والذين يجلسون تحت ظل الحائط لقتل الوقت)؟
لا اعتقد ان الصحراويين بشكل خاص والبيظان بشكل عام يملكون المقومات الثقافية والسلوكية والمدنية لبناء دولة متحضرة بما في ذلك "دولة البيظان"، موريتانيا...؟
مسيرة متعددة الألوان:
قام الملك الحسن الثاني بالتحضير جيدا والتخطيط الإستراتيجي للمسيرة "الخضراء" التي انطلقت من مدينة الطرفاية أو كوب جيبي كما يسمة في كتب التاريخ في السادي من نوفمبر 1975 وحملت معها إصرار ملكيا وإرادة الشعب المغربي لملئ الفراغ السياسي الذي قررت إسبانيا تركه في ذلك الجزء من "أرض البيظان"...
لن نجافي الحقيقة بالقول ان طموح المغرب أو على الأصح طموح الملك الحسن الثاني لايقف عند حدود واد الذهي والساقية الحمرا وآوسرد بل يتعداه الي المطالبة بموريتانيا والجزائر نفسها وتونس تحت إسم "المغرب الكبير" الذي تبناه العرش العلوي في اطروحة علال الفاسي في خمسينات القرن الماضي...
كان الملك المغربي الراحل الحسن الثاني ماكرا ويملك القدرة على تحريك شعبه من أجل أتفه الأسباب بنفس الدرجة التي كان بها قادرا على التنكيل بالمعارضين والمناوئيين لحكمه الدكتاتوري الذي طبعه بلون الدم والرصاص...
كان على ذلك الإرث الانساني أن ينتظر تربع الملك محمد السادس على العرش ليخرج أحد السجناء المرموقين والمحنكين والذين لم يثنيهم المرض والسجن عن الكتابة والتفكير في تصور للمصالحة مع الذات...
بعد سنوات قليلة من توليه الحكم، أنشأ محمد السادس "المجلس الإستشاري الوطني لحقوق الإنسان" وعين عليه السيد ادريس بن زكري، الذي قتله المرد وثقل سنوات السجن الطويلة قبل أن يحضر إعلان نتائج المجلس وتوقيع التقرير الختامي الذي صدر في أغسطس 2006...
رحل إدريس بن زكري وطويت صفحة سنوات الرصاص في المغرب، لكن الإرث الثقيل للحسن الثاني لم ينتهي بعد. فهناك من المغاربية من يطالبون بالإنضمام للمملكة الإسبانية كلما شعروا بالغبن والحرمان في الأقاليم الشمالية من الناضور والحسيمة ومارتيل وتيطوان...
وهناك أيضا من يعتبرون ابناءهم يعيشون على الهامش وليس لهم الحق في التملك والإنتقال الطبيعي من جبال الأطلس المتوسط الي المدينة بكل رفاهيتها. يحملون "المخزن" مسؤولية محاصرتهم في مدن وقرى مثل آزرو وأخنيفرة وصفرو ووزان، حيث يعتبر الناس أنفسهم من الأمازيق المضطهدين ويعاملون كما لو انهم مواطنون من الدرجة الثانية مقارنة بالفاسيين والمكناسيين والكازاويين، الذين هم أصلا من ابناء فاس البالي...
كل هذه الفروق الداخلية كوم وقضية الصحراء الغربية كوم آخر. فالصحراء هي بمثابة وميض مزعج للبلاط الملكي و محك حقيقي لحضرة العائلة العلوية...
موريتاينا والصحراء:
لن أخوض هنا في تداعيات الحرب الموريتانية الصحراوية وتباين مواقف العسكر مع رئيس دولة آماليز" آنذاك السيد المخطار ولد داداه، لكننا بالرجوع الي خطاب الأخير أمام الشعب الموريتاني في مدينة أطار عام 1975 بعد أيام من رجوعه من مؤتمر تسوية وتقسيم كعكة الصحراء الغربية. أعلن المخطار ولد داداه ان المؤتمر أسفر عن منح المغرب واد الذهب بعاصمته لعيون ومنح الجزائر تيندوف بينما حصلت موريتانيا على إقليم الداخلة...
لكن المغرب إستغل الضعف والوهن الذي كان يمر به "الوليد الخديج"، موريتانيا آنذاك وضم الداخلة الي لعيون وفرض حمايته وبسط ذيول المسيرة الحمراء عليها. لم تندد موريتانيا، كعادتها، بأي شيء ولم تطالب أبدا بالداخلة في الوقت الذي قام المغرب بطباعة مقررات مدرسية في نفس العام ترسم حدود المملكة المغربية من "طنجة الي لكويرة"، المدينة التي تقع الآن في حدود نواذيبوا، العاصمة الإقتصادية لموريتانيا...
لطالما كانت موريتانيا الحلقة الأضعف في هذا النزاع المفتعل نظرا لضعف التخطيط المستقبلي وضعف التمثيل الدبلوماسي لبلاد السيبة. لذلك إكتفي المخطار ولد داداه آنذاك بإتخاذ قرار أحادي دون أي استفتاء شعبي على قضية التقسيم الإسباني للصحراء وترك الداخلة للحسن الثاني...
الدولة البيظانية:
يعتقد معظم الصحراويين أنهم الممثل الشرعي للإرث الحساني في المنطقة وأنهم يملكون مقومات دولة بكل ابعادها. لكن كل المؤشرات والمعطيات الدلالية لاتوحي بصحة هذا الإدعاء، لأن الشعب البيظاني الذي يعيش في الأقاليم الجنوبية للمغرب (لنفترض صحة إدعاء المغرب لهذه الأقاليم جدلا) لايحبون العمل ويركنون الي الإتكال على المساعدات والمعونات التي تقدمها الحكومة...
أغلبيتهم لايحبون العمل الشاق والجد والإجتهاد لأنهم يعتقدون ان الحكومة المغربية تأخذ خيراتهم ولهم الحق أن يحصلوا على رواتب شهرية وهم في بيوتهم...
هذه العقلية ايضا تنطبق على شبابهم الذين يعتصمون كل حين أمام البرلمان، في الرباط على شارع محمد الخامس، إحتجاجا على تحويل دفعة منهم كأساتذة في بعض المدن المغربية الشمالية أو الوسطى مثل فاس ومكناس والتي يطلق عليها الصحراويين عبارة (الدخيل)، وهي عبارة يستخدما سكان لعيون والداخلة على المغاربية الذين يعيشون بينهم والذين هم بدورهم يَدفع لهم المخزن رواتب شهرية لتَغَرُبِهِمْ في الصحراء من أجل تحقيق هدف التوازن الديمقرافي في المنطقة....
يتجاهل الصحراويون (أعني سكان لعيون والسمارة والداخلة بالدرجة الأولة) واقع الحضور المغربي والثورة التنموية التي قام بها (المحتل المغربي) في أرضهم والتي لولاها لظلوا جزءا من بلاد السيبة والرياح والغبار والأرصفة الرملية والنفايات المتبعثرة كما هو الحال في الطرف الآخر من بلاد البيظان...
الدولة، قبل كل شيء، تصور فكري في أذهان الأجيال وتخطيط على المدى البعيد وليست فكرة إرتجالية أو مجرد كلام أو رزمة مطالب، شرعية أو غير شرعية، تحققها الحكومة للشعب... ا لدولة هي معادلة أو لنقل متراجحة متعددة الأطراف تحتاج للتضحية والتناسق والألفة وهضم الآخر بكل قشورة...