على مدى أكثر من عام بدت موريتانيا كما لو أنها تعيش حراكا سياسيا محموما، على غرار ما تعيشه دول عربية عديدة في المغرب والمشرق، فتصاعدت وتيرة الاحتجاجات والمطالب الاجتماعية في مختلف أنحاء البلاد، وشكل عدد من الأحزاب الرئيسية منسقية للمعارضة
الديمقراطية، رفعت سقف شعاراتها من الدعوة إلى حوار وطني شامل بين المعارضة والنظام، إلى المطالبة بإنهاء حكم الرئيس محمد ولد عبد العزيز الذي وصفته بالدكتاتورية والفساد والعجز عن حل مشكلات البلاد، و بدأت تلك المنسقية سلسلة مسيرات واعتصامات حشدت خلالها الآلاف من مناصريها في الساحات والشوارع الرئيسية وسط العاصمة نواكشوط، وتواصلت تلك الأنشطة منذ ذلك التاريخ، رغم بعض المراوحة، وفترات الهدوء ... من حين لآخر. في الوقت ذاته صادق البرلمان الموريتاني على أهم نتائج الحوار الوطني الذي دار بين أحزاب الموالاة، وبين ثلاثة أحزاب أخرى تعرف بالمعارضة المُحاورة، أو كتلة المعاهدة، في ما اعتبرته هذه الأطراف حزمة إصلاحات مهمة، توفر ضمانات حقيقية لنزاهة الانتخابات، وتضمنت تلك الإصلاحات، تشكيل لجنة مستقلة للانتخابات تتمتع بصلاحيات تحديد موعد الانتخابات واتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لتحضيرها والإشراف عليها حتى نهاية الاقتراع وإعلان النتائج، وبدأت لجنة الانتخابات أعمالها منذ شهور، وأعلنت قبل أسابيع عن موعد تنظيم الانتخابات التشريعية والبلدية المؤجلة منذ أكثر من عام، على أن يكون ذلك ما بين منتصف سبتمبر ومنتصف أكتوبر من العام الحالي. وأمام رفض المعارضة للمشاركة في الانتخابات دون توفر "ضمانات حقيقية"، وفي ظل قطيعة تامة بين المنسقية والنظام الحاكم، وبالنظر للأوضاع الاجتماعية الصعبة والظروف الإقليمية الحرجة، أطل رئيس مجلس النواب، مسعود ولد بلخير ـ وهو قطب رئيسي في المعارضة المحاورة ـ بمبادرة جديدة تهدف لتنقية الأجواء وضمان مشاركة منسقية المعارضة في الانتخابات المقبلة، وأعلنت أحزاب عديدة وهيئات مدنية وشخصيات مستقلة، دعمها للمبادرة، ودعت الأطراف الأخرى لقبولها والبدء في إجراءات تنفيذها. لكن رفض الرئيس الموريتاني، لمبدأ تشكيل حكومة وفاق وطني، شكل مصدر قلق لداعمي مبادرة الرئيس مسعود، حيث تعتبر هذه الحكومة إحدى النقاط الرئيسية في المبادرة، وهو ما جعل البعض يتحدث عن فشل للمبادرة، وعن فتور في علاقات التفاهم بين الرئيس ولد عبد العزيز وبين أحزاب المعارضة المحاورة له، فيما يبدو الرئيس ولد بلخير، حريصا على التهدئة وعدم التصعيد، متشبثا بالأمل في أن ينصت الجميع لصوت العقل ويحكّموا مصلحة الوطن، بعيدا عن منطق المغالبة، والمصالح الضيقة، ربما لأن الرئيس مسعود ـ كما عبر في نص مبادرته ـ يستشعر خطورة الوضع الذي يمكن أن تؤول إليه البلاد في حال أصر كل طرف على تجاهل الأطراف الأخرى واستبعادها. في هذه الأثناء يبدو أن قطاعا عريضا ومتناميا من المثقفين والمواطنين العاديين، ومن الشباب على وجه الخصوص، بات يعبر بصراحة أكبر عن الضجر مما يعتبره عجزا أو تقصيرا واضحا من النّخب الموريتانية ـ بمختلف توجهاتها وأطيافهاـ، فعلى مستوى الحزب الحاكم وحلفائه، يرى هؤلاء أن الكفاءات الفكرية والسياسية والاقتصادية المنتمية لهذا الحزب، قد انشغلت بالمناصب والامتيازات والدعاية السياسية عن تقديم أي خدمة حقيقية للمواطن رغم إمكاناتها الهائلة، بل إن هذه النخبة تبدو عاجزة عن تقديم النصح والمشورة الصادقة للرئيس نفسه، كما أن هؤلاء الساسة الذين يدّعون محاربة الفساد باتوا يستوعبون في صفوفهم معظم رموز الفساد المعروفين، ليس على مستوى واجهة الحزب الحاكم وقيادته، وإنما على مستوى فروعه وأقسامه في مختلف مقاطعات ومدن البلاد، وهو ما يجعل المواطن الموريتاني يائسا، فاقدا الثقة في إمكانية "تنفيذ وعود الرئيس"، حين يرى "رموز الفساد" من الصف الثاني والثالث، يتصدرون وينالون الحظوة عند السلطات المحلّية على حساب المواطن البسيط الذي ما زال يعاني كما كان.. أما على مستوى المعارضة فإن اهتمام النخب ينصبّ على المطالبة بإسقاط النظام ومحاولة ركوب موجة الربيع العربي، واستغلال معاناة المواطنين لتحقيق مصالح حزبية وشخصية، ويتضح ذلك ـ حسب هذه الرؤية ـ من خلال غياب برامج وأنشطة ثقافية واجتماعية تخدم المواطن، في حين يتم إنفاق أموال طائلة على تنظيم نشاطات سياسية عديمة الجدوى، هذا بالإضافة إلى رفض المعارضة المستمر لأي مبادرة أو مقترح للخروج من الأزمة، مما يعني ـ حسب هؤلاء ـ أن إنهاء معاناة المواطنين وإحداث تغيير إيجابي في الحياة الوطنية لا يمثل أولوية عند المعارضة إذا لم يكن يضمن وصولها هي إلى السلطة، أو يحقق مكاسب أفضل لقادتها ومعاونيهم. أما المثقفون عموما فيرى هؤلاء أن الكثير منهم ـ إلا من رحم الله ـ قد فضّل اعتزال تلك الفرق كلها، مما جعل "الوجهاء" يستأثرون بـ"قيادة" المجتمع، وهم المُتّهمون بالسعي أكثر لخدمة مصالحهم الخاصة، الشيء الذي ساهم في الحد من مستوى وعي المواطنين بقضايا الوطن ومفهوم المواطنة، لصالح تضخم بعض الكيانات الأخرى كالقبيلة، والإقليم الجغرافي، والطبقة أو الشريحة الاجتماعية، وهي كيانات بات الحديث حول قضاياها، محورا بارزا في اهتمامات السياسيين، على حساب قضايا الوطن الكبرى!! أمام هذا المشهد المتأزم يبقى الرهان قائما على مدى كفاءة النُّخـب الموريتانية وقدرتها على قيادة سفينة البلاد بحكمة وحنكة، وتجنيبها المخاطر المحدقة في بحر المشكلات والأزمات المتلاطم الأمواج، حتى تصل بها إلى بر الأمان، هذا إذا لم تكن هذه النخب بالفعل عاجزة عن تقديم الحلول المناسبة، مفتقرة للمؤهلات والشروط الضرورية لتحمل المسؤولية عما جرى ... ويجري في المستقبل. النُّخـب الموريتانية ..مُتّهمة بالعجز والتقصير