كثيرا ما تفهمت الأنظمة الأصولية كصحوة في العقائد وفقه المعاملات؛ لكن حين أصر الأصوليون على أفغنة مالي هكذا بالقوة؛ دفعني ذلك لإعادة الشك في معتقداتي حيال السلوك المثير للريبة.
وحين أعتزل سنده ولد بو أعمامه مهامه الدعائية في الإمارة الإسلامية التي أصرت أنصار الدين على إقامتها شمال مالي؛ اعتبرت ذلك صحوة في وجه الصحوة الأصولية؛ لكن مصادري الخاصة أرجعت الخطوة لحسابات عائلية.
بيد أن تخلف الذراع الإعلامية للجماعة في عمق ما تعتبره حربا مقدسة يخوضها رفاق السلاح؛ يظل تهديدا خطيرا ومؤشر تأزم يواجهه الأصوليون الموريتانيون في مثل تلك الحركات ذات النزعة الجهادية.
وعبر مراحل تناسخ تلك الجماعات ظل الأصوليون الموريتانيون الوقود الفكري والسلاح الانتحاري الجاهز للاستخدام حتى ضد المصالح الحيوية للدولة الموريتانية؛ لكن تبدو الخيبة والإحباط أحد عوامل توبة هؤلاء أو لجوء آخرين للأنظمة التي كانت بالأمس معادية.
ولعل تسليم ولد بو أعمامه لنفسه طواعية للسلطات التي وصفها يوما بتعطيل شرع الله؛ وإن كان بإيعاز من بعض أقاربه؛ يبقى أحد أمهم الأحداث المأساوية في مسيرة تلك الجماعة التي لا تقبل التراجع من قبل مرتاديها.
في عز إدارته للحرب كثيرا ما أبان سنده ولد بو أعمامه عن عصبية أصولية؛ تكفر الأنظمة الحاكمة وتلقي باللائمة على شعوبها التي استمرأت ضلالها؛ وفق تحليله للأمور.
تماما كما لو أنه يوقظ نزعته القديمة إلى السلفية الجهادية؛ إلا أن نرفزة الشاب الموريتاني الذي عبر مسبقا جامعة نواكشوط والذي خاض تجربة سياسية كمستشار بلدي في باسكنو؛ شرقي موريتانيا؛ كانت تصوغ منه شخصا آخرا أكثر تطرفا وميولا للعنف؛ رغم تلويحه بخلافته؛ التي لا تعدو آراء شكلية مع قادة قاعدة بلاد المغرب الإسلامي.
الكثير من الأصوليات التي عرفها التاريخ الإسلامي بدءا بالأصولية الأموية والعباسية ثم الفاطمية والزيدية إلى غاية الأصولية العثمانية؛ لم تكن إلا نتاج عدم تجانس كيميائي مع التعقيدات المحلية؛ وليست جماعة أنصار الدين إلا حالة نرفزة السياسية؛ تعكس تجذر الشحن الوهابي الذي خضع له شخص إياد آغ غالي أثناء تمثيله الدبلوماسية بالمملكة السعودية.
ولا شك أن الميول السلفية والأصولية لشخص ولد بو أعمامه وقائده الطارقي قد تجانست كيميائيا ليخوضا معا حربهما المقدسة؛ لكن يبدو أن اجتهادات أصولية أخرى أو مراجعات مونولوجيه لجئ إليها البعض خلسة من البعض الآخر؛ خاصة بعد تغير موازين القوى في ميادين المعركة؛ ستكون لها كلمة الحسم في السيناريوهات القادمة.
كما أنه واضح من خلال الأطر التنظيمية لجماعة أنصار الدين أو غيرها من الفروع السلفية المرتبطة بتنظيم القاعدة لا يتبوأ السلفيون الموريتانيون المناصب المناسبة ولا حتى المكانة اللائقة؛ بل ولا يكونون في صدارة المطلوبين أثناء تبادل الأسرى؛ رغم أنهم الأكثر حضورا في الجوانب الفقهية والفكرية وحتى الفدائية؛ وهذا يخلف حالات إحباط مريرة.
من خلال طريقته في الدعاية كثيرا ما حاول ولد بو أعمامه؛ أن يظهر كما لو أنه شخص ابو يحي الليبي الذي شغل منصب الذراع الإعلامية لتنظيم القاعدة الأم؛ لدرجة أن الأخير أفتوى بجواز الحرب ضد رؤساء الأنظمة الحاكمة.
لكن في الوقت نفسه تبقى مسألة أن يحظى ولد بو أعمامه بحالة تطبيع مع نظام كثيرا ما وصفه بتعطيل شرع الله وصمة في جبين مثله الدينية التي كثيرا ما ناضل من أجلها؛ كما تكشف إفلاس أنصار الدين بعد أن تراجعوا خطوات عن توجهاتهم الشرعية التي أمنوا يوما أنها المخلص لشعوب المنطقة المنغمسة في براثين الكفر والضلال؛ على حد تأويلهم.