يوميات سوق المظالم: ميكانيزمات التوازن…والمنافسة الاحتكارية / الشيخ محمد المامي اسلام

بعد أن عرفنا سوق المظالم في المقال الأول بأنها سوق يتبادل داخلها المظلومون مع الحاكم العادل و يأخذون فيها حقوقهم فيما ينصرف اهتمام ذلك الحاكم إلى شراء المظالم جميعها و بالتالي تسود العدالة و المساواة لما لهذا التدخل من أثر في رفع الظلم و الحيف و إحقاق الحق و إنصاف المظلومين.

في هذه الحلقة سوف نحاول أن نتناول موضوعا مهما على مستوى هذه السوق شأنها فيه شأن أي سوق أخرى، يتعلق الأمر بإشكالية التوازن الذي يعني من الناحية الشكلية أن السوق قد انعقدت في حين يعكس جانبه الضمني أن البائع راض بما حصل من عائدات و المشتري راض بما اقتناه من مواد كذلك لا بد من الإشارة إلى إشكال آخر لا يقل أهمية على مستوى سوق المظالم و هو الاحتكار أوالمنافسة و السؤال الذي يطرح نفسه دون غيره هو هل سوق المظالم الموريتانية سوق متوازنة أو بعبارة أخرى هل كلا الطرفين فيها راض بما حقق من بيع إن بيعا و من شراء إن شراء ؟ هل يشعر المظلومون بنوع من الحرية في طرح قضاياهم أو بعبارة أخرى بنوع من المنافسة التامة في طرح مظالمهم و سهولة وصولها إلى الحاكم أم أن ثمة مضايقات تنعكس في صورة من صور الاحتكار في هذه السوق؟

للحديث عن التوازن على مستوى السوق لابد أن نمر و لو مرور الكرام بمفاهيم تتحكم في العملية، يتعلق الأمر بميكانيزمات تعمل وفق تلقائية تامة لتجعل السوق تقترب من التوازن إن لم نقل تتجه إليه، فالبائع يعرض بضاعته بثمن مرتفع جدا (يطلب المظلوم حقه و في بعض الأحيان يطلبه و زيادة) بينما يقدم المشتري ثمنا أقل من ذلك بكثير و حينها تنشأ آلية تجعل تلك الأسعار (التعهدات و الالتزامات و الثقة بشكل عام على مستوى سوق المظالم) في صعود و هبوط من خلال المفاوضة و المساومة إلى أن يصل الطرفان إلى ثمن يجعل كلا منهما يقبل التنازل للآخر عما بيده و هذا الثمن بطبيعة الحال أقل من الثمن الذي عرض به صاحب العرض بضاعته و أكبر من الثمن الأولي الزهيد الذي تقدم به المشتري كثمن لتلك السلعة (المَظلَمة).

من خلال نظرة فاحصة لسوق المظالم الموريتانية نجد أن المواطنين من مختلف أنحاء العاصمة انواكشوط يفدون إلى هذا المكان و منهم من يفد من الداخل إلى السوق ليعرض مظلمته على رئيس الجمهورية.

لتحليل هذه الظاهرة لابد من الخوض في مضامين سياسية حاولنا أن ننأى بأنفسنا عنها لكننا بمقابل ذلك سوف نتبنى لتحليلها نهجا علميا نتناول فيه بالنقد الذي نأمل أن يكون موضوعيا مختلف وجهات النظر الرافضة و المؤيدة للفكرة.

يتمثل الإجراء الذي تتبعه السلطات للتعامل مع المظالم المعروضة على مستوى السوق، في أخذ نسخة من العريضة المظلمية إن صح التعبير و تعهد بتسليمها إلى الرئيس لينظر فيها و يتخذ القرار المناسب من خلال الاتصال بالوزارة المعنية و مطالبتها بأن تعيد النظر في هذه القضايا و إما من خلال التدخل المباشر لحلحلة القضية، و هنا لابد من الإشارة إلى أن كثيرين يعارضون وجود هذه السوق و يعبرون عن مواقف مختلفة منها. في حين يعتبرها آخرون مظهرا طبيعيا لثقة المتقدمين بمظالمهم في المعاملة التي سيلقونها بحسب وجهة النظر هذه.

ترى وجهة النظر الرسمية أن رئيس الجمهورية بتبنيه لشعار رئيس الفقراء و عمله على تفعيله و تكريسه واقعا من خلال تفضيل عناصر هذه الطبقة (الأقل دخلا) و تغليبهم على غيرهم و بالتالي لا ترى غضاضة في اتصال هذه الشريحة بمن سبق أن أعلن قربه منها و استعداده التام لخدمتها و تستشهد على ذلك بأمثلة كثيرة من بينها الرعاية التي يوليها لمن يرتادون السوق لعرض مظالمهم و تكوين خلية مستشارين لهذا الغرض ضمانا لانسيابية وصول أولئك الضعفاء إلى حقوقهم دون أن يشعر أي منهم بالتمييز ينضاف إلى ذلك غير الضعفاء (الأرفع دخلا) الذين يفدون إلى السوق عارضين مشاكل عجز نفوذهم و يُسر حالهم و قوتهم عن جعلها تراوح مكانها فيلجأون إلى السوق و يتبنى الرئيس قضيتهم و يتصرف بما يراه مناسبا بحكم ما هو متاح.

على النقيض من وجهة النظر الأولى ترى وجهة نظر من لا يشاطرون النظام الكثير من الأفكار و من بينهم المعارضة أن الأمر لا يتعلق بمظالم تطرح على الحاكم لكي يتدخل فيها بل يتعلق بأحادية كرسها بحسبهم رأس النظام و بالتالي ما عاد لا لوزير و لا لمسؤول عادي من سلطة أو نفوذ كي يتدخل من اجل حل مشكل معين و بالتالي جمع رئيس الجمهورية بحسب وجهة نظرهم دائما السلطة بيده و هو يتصرف بها على هواه و مزاجه شأنه في ذلك شأن أي ضابط عسكري تولى مقاليد أمر مدني بحسب ما مر به البلد من تجربة. و بالتالي يجب أن يغادر الحكم كي يتوزع ذلك النفوذ و تلك السلطة بين المعنيين بالأمر و عليه تختفي سوق المظالم و إلى الأبد ذلك أن كل من له حق وجد حقه.

لكن هذه النظرة الأخيرة لا تأخذ في الحسبان أنه في السنوات الماضية كانت التظاهرات تتم تارة أمام  مبنى البرلمان و تارة أخرى أمام مبنى الحكومة  و أذكر من أمثلة الحالات التي قضى أهلها فترة طويلة جدا من الزمن دون أن يجدوا حلا لمشكلهم "مدرسوا محو الأمية بالإذاعة" حيث أمضى هؤلاء زهاء العام و النصف إن لم أقل بأكثر من ذلك دون أن يحل مشكلهم إضافة إلى مشكل عائلات المعتقلين السلفيين بصرف النظر عن أحقيتهم في ما يطلبون لكن مشكلهم استمر طويلا قبل أن يحل و لو على الصعيد الجزئي حلا يتضمن بعضا مما كانت تطلبه العائلات و بعضا مما كانت تصر عليه السلطة الحاكمة (توازن جزئي على مستوى السوق).

بيد أن النظرة الأولى هي الأخرى لا تخلو من عيوب فانتقال المواطنين مشيا على الأقدام من ازويرات و انواذيبو للتأكيد على أحقيتهم بما يطلبون أمر غير مقبول بل يكفي أن تعرض تلك المشاكل على مستوى السوق الجهوية للمظالم و من خلال الربط المباشر بين مختلف الأسواق الجهوية والسوق المركزية تصل تلك المشاكل (المظالم) إلى المشتري الذي يبادر بحلها بصفة جذرية إن أمكن و بالتالي يتحقق بين الحاكم و المحكوم نوع من التبادل الرفيع يعبر فيه الأخير عن درجة رضاه بمن يحكمه و يبني عليه الأول استراتيجياته المستقبلية الخاصة و العامة على سبيل المثال تلك المتعلقة بالترشح و غيره.

للحديث عن المزاحمة في السوق لابد من الحديث عن نوعي السلوكيات التي تسود السوق و التي تغير اتجاهها و تحيلها تارة إلى اللاتوازن (تموجات السوق الانفجارية)، يقصد بهذه السلوكيات : المنافسة التامة أو الخالصة و الاحتكار و لتوضيح مفهوم الاحتكار لا بد من الإشارة إلى أن الاحتكار يمكن أن يتم من طرف البائع كما يمكن أن يتم من طرف المشتري، فعندما تقوم مجموعة من العارضين بعرض بضاعة لا يشتريها إلا مشتر واحد، ففي هذه الحالة نحن أمام احتكار المشتري أو احتكار الطلب و الاتحاد الأوروبي خير مثال على ذلك حيث يحتكر شراء بعض السلع أو بالأحرى المواد الأولية من بعض البلدان النامية. فيما تنحصر الصورة الأخرى للاحتكار في بائع و احد أو باعة محدودين مقابل عدد هائل من المشترين، و في هذه الحالة نحن أمام صورة من صور الاحتكار تدعى احتكار البائع. فهل تعيش سوق المظالم في موريتانيا حالة منافسة أم حالة احتكار؟

ترى وجهة النظر الشكلية أن ثمة احتكارا واضحا من خلال مقارنة عدد الطالبين لحقوقهم أو بعبارة أخرى أصحاب المظالم بعدد من يستقبل تلك المظالم معبرا عنه بشخص واحد هو رئيس الجمهورية أو الحاكم و بالتالي تصور الأمر على انه احتكار الطلب. بينما ترى وجهة النظر الضمنية في الرئيس تجمعا كبيرا لعدد هائل من المسؤولين و أصحاب المناصب و من يهمهم الأمر و بالتالي تقارن هذه المجموعة بمجموعة المظلومين لتستنتج أن الطرفين متكافئان من حيث العدد و بالتالي ترى السوق سوق منافسة تامة و تستشهد على ذلك بدرجة الحرية التي تتاح لرواد السوق و انسيابية التعامل معهم و عدم استخدام العصى الأمنية إلا في حالة نادرة.

 تقسم الرؤية الرسمية المشاكل إلى مشاكل عابرة تجد بسرعة طريقها نحو الحل بينما يجب أن تنتظر المشاكل الهيكلية فترة كافية حتى تجد طريقها هي الأخرى نحو ، و تضرب للأخيرة مثلا: مشكل إصلاح التعليم.

بينما يرى رافضوا وجهة النظر هذه أن استمرار بعض المشاكل في الظهور دون حل يعبر عن عدم الاهتمام بها أو العجز عن إيجاد حل لها و عليه يلزم إشعار المواطن بالأمر حتى لا تهدر طاقاته المادية و المعنوية و هو ينتظر حلا سيستمر سنوات طويلة.

و للخروج من هذه الديمومة لا بد من القول للأمانة و الإنصاف إن مشاكل كثيرة وجدت طريقها نحو الحل بعضها يتعلق بالعمل (العمال غير الدائمين، الحمالين، حركة أنا علمي...) و بعضها يتعلق بالأحياء العشوائية، فيما يتعلق جانب آخر منها بحالات منفردة... و يبقى الكثير ممن لم يقتنعوا بعد بعرض مظالمهم في السوق و الذين من بينهم على سبيل المثال لا الحصر سيد تحدث باسم مالكي سيارات أجرة "على طول الطريق" المعروفة محليا ب "تودروا" إلى إحدى الإذاعات الحرة بانوا كشوط قبل يومين مهددا بنقل المشكل إذا لم تتصرف وزارة النقل التصرف الملائم إلى سوق المظالم لطلب تدخل رئيس الجمهورية.

على هامش السوق، ألقي كعادتي نظرات على الشعارات و ألاحظ تلك التي تصمد منها طويلا و مدى إصرار المطالبين بحقوقهم إلى غير ذلك.

مما لفت انتباهي مجموعة من السيدات قدمن مع نهاية شهر سبتمبر أو بداية شهر أكتوبر من العام الماضي 2012 لرفضهن التخلي عن أراض قلن إنها شرعت لهن و بقوة صاحب نفوذ تم تحويلهن عنها و بالتالي قدمن إلى الرئيس لإنصافهن، لكن الحظ في بادئ الأمر لم يبتسم لهن بل خبأ لهن الكثير من البرد القارس و الرياح الجافة و المناخ الغير ملائم، ذلك أن فترة مكوثهن في السوق و رفضهن الرجوع إلى منازلهن إلا بعد أن يحل هذا المشكل طالت بسبب إصابة الرئيس بطلق ناري في الـ 13 من أكتوبر من نفس السنة فما كان من هؤلاء النسوة إلا أن قمن بإنزال الشعارات المطالبة بالإنصاف و أحللن مكانها شعارات تطلب الشفاء له حتى أني و في أحد الأيام مررت بالقرب منهن و أصغيت لما يرددنه فوجدت البعض منهن يقرأن آيات قرآنية و البعض الأخر يقرأ صلوات على النبي صلى الله عليه و سلم فخففت من مشيي لأسمع إحدى العجائز تتضرع إلى الله أن يشفي الرئيس و يعيده إلى أهله سالما، تابعت خطوي باتجاه عملي و في المساء عدت و هذه المرة و وجهت لإحداهن السؤال: ما خطبكن فحكين لي قصتهن و أرينني وثائق تتحدث عما يطلبنه فسألت لهن الله التوفيق و تابعت مسيري فسألنني في أي مرافق الدولة أعمل قلت "أعمل من أجلكم". و تمر الأيام القارسة و النسوة رافضات للعودة باحثات طوال النهار بين نواحي المكان عن مخبإ للظل و في المساء يذهبن إلى مكان لا وجود فيه لبعوض الملاريا حتى إذا ما حل الصباح عدن من حيث بدأن للنضال، أعمار هؤلاء النسوة بين الـ 40 و الـ 50 من العمر و قد تركن أطفالا وراءهن و أزواجا و حوائج كثيرة سوف تتضرر بدون شك ببقائهن في هذا المكان لكنهن فضلن الإصرار و الصبر حتى ينجلي المشكل و هو ما تم بعد عودة الرئيس من العلاج حيث اختفين و لم أسمع لهن من ذكر بعد ذلك.

ملاحظة أخرى لا تقل شأنا و تعكس مدى إصرار و تضحية البعض من أجل حل مشاكلهم، تتمثل في كون بعض رواد السوق لا يفدون إلا عندما تكون الظروف المناخية مواتية و عندما يخرجون يتركون نفايات مواد غذائية ثمينة إضافة إلى أن هؤلاء عندما يفدون تمتلئ المنطقة بالسيارات الفارهة و بعد أن يحتسوا الشاي و يشربون يقومون بترديد بعض الشعارات و رفع بعضها الأخر على الأيدي و ربما تجد شخصا يتجول داخل المجموعة يؤطرها و يطالبها بترديد شعارات معينة و القيام بحركات و رقصات تعبيرا عن الرفض ....في الوقت الذي تجد فيه البعض الآخر يفد فجرا و يكتوي بالشمس الحارقة و من بين من تجدهم في مقدمته عجزة ثيابهم بالية رثة و أصواتهم تكاد تسمع إن لم أقل مبحوحة و يستمر نضالهم ومرابطتهم بالمنطقة حتى تنجلي مشاكلهم فيختفون بشكل تام و تجد في الغد فريقا جديدا قدم لعرض مظلمة جديدة.

و مما حز في نفسي و آلمني كثيرا أنني كنت في أحد الأيام عائدا من مكان عملي فلاحظت السوق خاوية على عروشها و قوارير مسيلات الدموع منتشرة ذات اليمين و ذات الشمال، عناصر الأمن مدججون بأسلحتهم وقد قدموا بخيلهم و رجلهم و كأن أمرا جللا قد حدث فما كان مني إلا أن سألت منكتا أحد رجال الأمن: مساؤكم سعيد...هل تطلب التدخل كل هذه الأمور ؟ و هل كان رواد الساحة غير مهذبين أو بالأحرى كانوا مشاغبين؟ فأومأ إلي أحدهم برأسه مشيرا أن الشغب قد حصل فأردفت من كان هنا فلم يجبني، و بعدها بساعات علمت أن الحمالين هم من كان هناك. فتألمت كثيرا و تمنيت لو حل المشكل في أسرع وقت و هو ما حصل بفضل الله.

ملاحظة أخيرة هي أن سوق المظالم ضمت في جانب منها سوقا موازية، ة فنظرا لكون البنك المركزي يمثل الهيأة الضامنة للعملة النقدية و بداخله تنعقد مختلف صفقات بيع النقود و رؤوس الأموال على الآماد القصيرة و المتوسطة و الطويلة إلا أن ذلك لم يمنع سوقا موازية من نوع آخر من الظهور هي سوق النقود التالفة. يقوم البعض بجمع النقود التالفة أو التي فقدت أجزاء منها كي يجلبوها إلى البنك المركزي ليعوضهم عنها و بالتالي نشأت بنفس الحيز سوق نقدية من نوع آخر مختلفة عن السوق النقدية مابين المصارف، سوق الغرائم القابلة للتفاوض و بورصة الأوراق المالية إنها سوق النقود التالفة التي تتخذ مكانا في سوق تضم سلعا تالفة (مظالم) لا يرغب بها إلا من حمل راية العدل و الإنصاف و المساواة و ألغى و إلى الأبد تاريخ صلاحية و انتهاء بضائع تلك السوق ليستقبلها في كل وقت بصدر رحب مهما كانت تقادمها أو أقدميتها.

مع تحياتي

الشيخ محمد المامي اسلام

[email protected]

 

25. مايو 2013 - 16:08

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا