موريتانيا : التحسين الوراثي للحيوانات على سطح المريخ ..! (1) يحيى بن بيبه

تزايدت في الخطاب الرسمي الحكومي منذ بعض الوقت وتيرة الحديث عن التحسين الوراثي لحيواناتنا. 
فما هو التحسين الوراثي ؟ وهل وفقت حكوماتنا في إدخال الأصول الوراثية للسلالات الحيوانية المتفوقة، التي تناسب بيئتنا؟ وهل حققت هذه الحكومات المتعاقبة حتى الآن نتائج ذات مصداقية في هذا المجال؟ 
التحسين الوراثي نوعان : داخلي وخارجي. 
فأما الداخلي فهو ما يتم من داخل السلالة الحيوانية ذاتها من دون خلطها بسلالة أخرى مختلفة. ويتم ذلك بالتزاوج بين الإناث والذكور المتفوقة وراثيا ضمن السلالة ذاتها. وهو ما يستدعي حفظ أنساب الحيوانات المتفوقة على مدى أجيال كثيرة لاختيار أفضلها للتزاوج كما يفعل الأوربيون وغيرهم.
وميزة هذا النوع من التحسين الوراثي أنه يعطي حيوانات أكثر تكيفا مع البيئة المحلية ،لأن دماءها محلية بالكامل . لكن عيب التحسين الداخلي يتمثل في بطء نتائجه مقارنة بالتحسين الخارجي.
والغريب أن كل حكوماتنا المتعاقبة لم تعر أي اهتمام لهذا النوع من التحسين الوراثي ، ولم تطلق حتى الآن ، أي برنامج لاستغلال الفرص الهائلة التي يتيحها والسبب في نظري، هو أن القرارات الفنية في. إدارتنا تتخذ " بتعليمات عليا وليس من قبل مختصين.
أما التحسين الوراثي الخارجي، فهو ما يعرف بالتهجين وهو الخلط بين سلالة حيوانية متفوقة وراثيا، وسلالة متدنية الكفاءة لرفع مستوى إنتاجها. 
ويتم التهجين غالبا، عن طريق التزاوج بين ذكور السلالة الأولى وإناث السلالة الثانية، سواء تم ذلك عن طريق خلط الحيوانات للتكاثر بشكل طبيعي، أو عن طريق التلقيح الصناعي.
ومعروف في علم الوراثة أن المواليد الناتجة من الخلط بين سلالتين مختلفتين تأخذ الوسط بين الأبوين، في الصفات الكمية، التي تعرف أيضا بالصفات الاقتصادية، مثل كمية الحليب كمية التوائم، سرعة النمو اليومي، الوزن النهائي.. الخ... 
ويبدو أن حكوماتنا منبهرة بالسلالات الحيوانية الأوروبية، متجاهلة ضعفها أمام الظروف البيئية القاسية، المماثلة لبيئتنا حيث الحرارة المرتفعة، والأمراض المستوطنة والمراعي الفقيرة .
وهكذا أطلقت الحكومة، منذ نحو ربع قرن برنامجا متواضعا لتهجين الأبقار المحلية مع سلالة افريزيان الأوروبية. 
وبرغم أن هذه السلالة هي الأعلى حليبا في العالم، لكنها أضعف السلالات الأوربية أمام الحرارة خلافا لسلالة الجرسي الأوروبية، التي تعتبر أكثر السلالات الأوروبية تحملا للحرارة وهي : تجاهلها تماما في البرنامج الحكومي. وقد لوحظ في الدراسات التي أجريت على السلالتين في جنوب مصر الحار أن كمية الحليب التي تنتجها أبقار الجرسي هنالك معادلة لكمية الحليب المنتجة من أبقار لفريزيان، برغم أن الجرسي ، في أوربا لا تعطي من الحليب إلا نحو 60% من إنتاج الهولشتاين (ستة آلاف لتر للموسم مقابل عشرة آلاف لتر للهولشتاين). أما سبب النتائج المتعادلة للسلالتين في جنوب مصر فهو تراجع إنتاج الهولشتاين في المناطق الحارة، وتفوق الجرسي في التكيف مع مثل هذه البيئة ، خلافا لكمية الحليب التي تتفوق فيها الهولشاين من الناحية الوراثية. ذلك أن إنتاج الحليب لا تتحكم فيه فقط العوامل الوراثية المرتبطة به، وإنما عوامل التكيف مع البيئة أيضا. 
ومعروف من التجارب المحدودة، أن أبقار الهولشاين الحلوب المرباة في انواكشوط وروصو لا تعطي في أفضل الحالات، إلا نصف كمية الحليب التي تعطيها مثيلاتها في أوروبا ، هذا برغم أن مناطقنا الساحلية التي تمت تربيتها فيها هي أكثر مناطقنا ملاءمة لها بسبب الاعتدال النسبي للحرارة.
ويعرف المنمون في اترارزة أن الجيل الأول الهجين الناتج عن خلط هذه السلالة مع الأبقار المحلية، يتميز بضعف واضح. كما أن هؤلاء المنمين لم يعودوا يقبلون الانتقال إلى الجيل الثاني ( 75 % افريزيان + 25 محلي )، لأن الضعف في هذه الحالة يكون شديدا جدا، وهو ما يتفق مع معطيات الدراسات العلمية التي تقول إن الضعف يظهر على الحيوانات المهجنة إذا وصلت الدماء الأجنبية فيها إلى 70%. 
ويبلغ الإنتاج اليومي للجيل الأول الهجين بين لفريزيان والأبقار المحلية نحو عشرة لترات من الحليب، طبقا لاستقصاء قمنا به بین المنمين في اترارزه، بدلا من نحو عشرين لترا التي ينبغي أن ينتجها هذا الجيل الأول، طبقا لقواعد الوراثة. أما السبب فهو الضعف النسبي للتكيف ،بالإضافة إلى عدم وجود التغذية المناسبة، وكذلك سوء اختيار اللقاحات. وهنالك سلالة أبقار أخرى كانت جديرة بأن تنال التركيز الحكومي الذي استأثرت به لفريزيان، إنها سلالة أبقار الجيرلاندو البرازيلية التي يشكل انتاجها من الحليب نحو 80% من انتاج الحليب في هذه الدولة الزراعية الكبرى. وهي تنتمي إليها البقرة التي حطمت الرقم القياسي لانتاج الحليب سنة 2020، وذلك بانتاجها 124 لترا في يوم واحد السلالة التي حسب ما ورد في موسوعة جنس للأرقام القياسية. 
وتكمن أهمية التهجين مع هذه السلالة البرازيلية في قدرتها العالية على تحمل الحرارة المرتفعة ومقاومة الأمراض والظروف البيئية القاسية المشابهة لبيئتنا. هذا بالإضافة إلى كمية الحليب المرتفعة. وهذه السلالة ناتجة من التهجين بين سلالة ماشية الزيبو الهندية العالية التحمل، وسلالة الهولشتاين الأوروبية. 
ومعروف أن سلالة ماشية الزيبو هي المنتشرة في افريقيا ، وإليها تنتمي ابقارنا المحلية، وهذا يعني أن التهجين مع هذه السلالة سيعطي حيوانات أكثر تحملا وأعلى انتاجا، بسبب تكيفها الأفضل مع البيئة كما أنه سيسمح بالانتقال بالتهجين إلى الجيل الثاني بنتائج أفضل. وهنالك سؤال يطرح نفسه بالحاح : 
ما دامت بلادنا استخدمت التهجين بين الهولشتاين وماشية الزيبو المحلية والبرازيل استخدمت السلالتين نفسيهما في التهجين فلماذا حصلت البرازيل على هذه النتائج الباهرة، حتى إن بقرة من حيواناتها الهجينة حطمت الرقم القياسي العالمي في إنتاج الحليب بينما لا تنتج أبقارنا الهجينة إلا نحو عشرة لترات من الحليب يوميا؟ 
هنالك سببان رئيسيان للفرق الهائل في النتائج بين البلدين: أولهما أن البرازيل اختارت أفضل لقاحات الهولشتاين ، التي تعطي أعلى نتائج ، بينما اختارت موريتانيا "أربح" اللقاحات للمورد ، وهي بالطبع أرخصها وأردوها ..! أما السبب الثاني فهو أن البقرة الهندية المستخدمة في التهجين كانت من سلالة تخضع منذ أزمنة طويلة لبرنامج تحسين وراثي داخلي، وهو برنامج يعتبر غيابه في دولة مستقلة منذ أكثر من ستة عقود إهمالا يرقى إلى مستوى الجرائم الاقتصادية الكبرى. 
لكن يحق للقارئ الآن أن يتساءل : ماذا أنتجت الجعجعة الحكومية حول التحسين الوراثي للأبقار ؟ 
للأسف النتائج في نظرنا، مخيبة للآمال. فبعد نحو ربع قرن من إطلاق البرنامج الحكومي للتحسين الوراثي للأبقار ، مازال التحسين الوراثي الداخلي مغيبا بالكامل رغم ضآلة تكاليفه، وضخامة الفرص التي ينتجها. 
أما التحسين الوراثي الخارجي، أي التهجين، فيكاد ينحصر، باترارزة ،أهم ولاية عرفته، في بقرتين عند هذا المنمي وثلاث عند ذاك، بينما لا وجود له اطلاقا عند الأغلبية الساحقة من المنمين في الولاية. أما الولايات الداخلية، فالصورة فيها أكثر قتامة، حيث تذرع الأرض جيئة وذهابا دون أن ترى بقرة واحدة مهجنة برغم أحاديث التلفزيون الحكومي عن محطات حكومية للتقليح الصناعي هنا وهناك، يبدو أن يسري فيها إلا في مناسبات رسمية محدودة ، ولأغراض معينة. 
( وأنت عزيزي القارئ ، كم رأيت من أبقار هجينة في الولاية التي تعيش فيها ؟ تستطيع أن ترى النتائج من موقعك.) 
وقد لفت انتباهي تنقلي، على مدى شهور بين الأسواق ونقاط المياه، في ولاية الحوض الشرقي خلال العام الماضي، دون أن أرى بقرة واحدة مهجنة، مما دفعني إلى التوجه إلى محطة التلقيح الصناعي قرب تامورت ،محمودة، وهي محطة تحدث عنها المسئولون كثيرا. 
وكانت الصدمة كبيرة عندما وجدت محطة مهجورة بالكامل لا إنس فيها ولا حيوان...! وإذا كانت هذه هي نتائج جهود الدولة على مدى نحو ربع قرن من "التحسين الوراثي" للأبقار، فهل نحن أمام تحسين وراثي على أمواج الأثير ، على غرار زراعتنا على أمواج الأثير؟ أم أن ما تتحدث عنه الحكومة صحيح ، ولكنه على كوكب آخر؟ وما سر هذا الاخفاق المدوي في التحسين الوراثي ، على غرار إخفاقنا المدوي في الزراعة ؟ ( راجع على جوجل مقالنا : موريتانيا : التاريخ العريق في الفشل الزراعي). 
ببساطة يكمن جانب من سر الإخفاق هنا في رداءة اللقاحات المستوردة ، وسوء تخزينها بالإضافة إلى غياب المحاسبة للمسئولين عنها، والتجار المستوردين لها. 
فبرغم أن نسبة نجاح حملات التلقيح الصناعي لدينا لا تكاد تصل في أحسن الحالات إلى 10% وتنخفض في بعضها لتقترب من الصفر، إلا أن أى مسئول أو مورد لم يتعرض للمساءلة بسبب ذلك. 
(نسبة نجاح التلقيح الصناعي في أبقار شركة دانون المغربية تتراوح بين 32 و %45 تبعا لأعمار الأبقار، حسب ما علمت من مسئولي الشركة خلال زيارة لمقرها). ومعروف أن بعض مسئولي إدارتنا يركز اهتمامه ، في ظروف الصفقات العمومية على مستوى العمولة التي سيتقاضاها من المورد، وهو ما يستدعي التساهل مع التاجر في شروط العقد ،وفي ظروف التسليم. 
وإذا ما عرفنا أن أسعار لقاحات نطف الثيران المجمدة تتراوح في الأسواق العالمية بين دولار واحد وستين دولارا للحقنة الواحدة حسب مستوى جودتها ، فإننا سندرك أن التاجر الجشع بطبعه لن يستورد إلا أردأ اللقاحات. يضاف إلى هذا أن اللقاحات تخزن في قنينات كبيرة مملوءة بسائل النيتروجين الذي يحفظها في درجة حرارة 196 درجة تحت الصفر.
وهذا السائل المرتفع التكلفة يتبخر جزء منه مع كل فتح للقنينة لغرض الاستعمال. كما أنه يتبخر بعد فترة محددة، حتى من دون أي فتح للقنينة على الإطلاق . 
فهل تعتقد أن التاجر المستورد الضامن عادة لولاء المسئول المستلم سيرفع التكلفة على نفسه بتعبئة كاملة لقنينات اللقاحات بغاز النتروجين؟
وهل تعتقد أنه سيلغي قنينات الطلبية ويستوردها من جديد إذا ظهر له أن الغاز تسرب ، وبالتالي أن النطف كلها ماتت؟ 
حدثني طبيب بيطري كان في محطة واد الناقة للتلقيح الصناعي ، عندما زارها رئيس الجمهورية السابق محمد بن عبد العزيز لإطلاق حملة لتلقيح الأبقار ، فقال إن الفنيين اكتشفوا أن جميع النطف المهيأة للتلقيح ماتت بسبب نفاد غاز النيتروجين الحافظ لها. ومع ذلك صدرت التعليمات بتلقيح الأبقار بها سترا للفضيحة. وهكذا سارت الأمور وكأن شيئا لم يحدث لينجو المسئولون والتاجر المورد..! إنها الأرض السائبة...! 
وهذه في نظري أهم أسباب نتائجنا الهزيلة في التلقيح الصناعي للأبقار. فهل سيظل الحبل على الغارب؟ أعتقد أن جانبا من الحل يكمن في أن تتعاقد الحكومة مباشرة مع الشركات الكبرى المنتجة للقاحات، على أن تزودها بشهادات تبين القيمة الوراثية للأصول المستخدمة كما هي العادة في مثل هذه الحالات.
وما لم ننتج أعدادا كبيرة من الحيوانات الهجينة، ذات الانتاجية العالية، فلا قيمة للأحاديث الرسمية عن زراعة الأعلاف الخضراء.  ذلك أن المردودية الهزيلة الحيواناتنا المحلية لا تتحمل التكاليف العالية لانتاج الأعلاف الخضراء.
وقد لاحظنا في شركة ثمار للأعلاف الخضراء التي كان كاتب هذه السطور أحد مؤسسيها، عزوف المنمين عن شراء محصول الشركة بسبب ارتفاع تكلفته برغم اعترافهم بنتائجه الإيجابية على مستوى كمية الحليب ونوعيته. فلنقم بمراجعة علمية شجاعة لبرنامج التحسين الوراثي لدينا، ولنحدد أهدافا عملية ملموسة، بعيدا عن الدعاية الجوفاء لا تطعم شعبا ولا تحقق استقرارا. والنجاح يسير إذا قربنا "أهل الذكر" وأبعدنا الموردين، وألجمنا شبكات الفساد. 
فقد غيرت البرازيل الأصول الوراثية لحيواناتها من خلال بقرة هندية واحدة حصل عليها مزارع برازيلي قبل نحول ستة عقود ، لتفاجئ العالم بسلالتها الهجينة الرائعة الجيرلاندو، فهل تفعلها حكومتنا، أم على قلوب أقفالها ؟
 

 

3. أغسطس 2023 - 11:15

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا