هذه الأرض تحت الإحتلال .
لكنها مسكونة بالتعقيد حتى في هذه أيضا .
من يحتلها ؟
من هو صاحبها ؟
ويجب أن تتحرر ممن ؟ .
في الحقيقة ليس لدي ما أبديه سوى قلقي .
هناك مجتمعان يتقاسمان الوجود على اختلاف في نوع وجودة هذا الوجود .
مجتمع السلطة ومجتمع الفقر .
يتكون مجتمع السلطة من الحكام والوزراء ورجال الأعمال والنواب وشيوخ القبائل والأمراء التقليديين وكبار الضباط والسفراء ....الخ
وهو مجتمع يتحلق حول الثروة ويتدافع عليها بقوة وهدوء .
يولي مجتمع السلطة وجهه لمركز القرار وبؤرة الثروة بينما يتحصن بأتباعه من المنتفعين الذين يتولون حمايته والمدافعة عنه .
من نقاط قوته أنه مستقطب للكفاءات العلمية والرمزية من المتعلمين والمثقفين ووجوه الرأي والنضال .
فهو يمتلك الثمن ( من يمتلك الثمن متخير في المثمون )
ومن نقاط قوته قدرته على استنساخ نفسه في الأجيال .
فابن مجتمع السلطة يشتري الكفاءة والصحة ويتخرج من أعرق الجامعات ويمتلك كامل الوقت لتعليم اللغات والسياحة ومعاشرة الشعوب .
كما أنه يتربى على مائدة الخبرة والعلاقات بشكل يخوله النفاذ للمناصب العليا مازجا بين بين الكفاءة والوساطة .
أما مجتمع الفقر فهو أضعف من حمل " ال " التعريف على كاهل الفاقة والشقاء .
لذلك لا يحتاج إلا لتعريف واحد ، وهو " البقية ".
ماذا يحدث عندما يتجاور مجتمع السلطة ومجتمع الفقر في بلد واحد ؟
هناك ثلاث خيارات يوشك أحدها على الظهور .
الخيار الأول هو أن يتغلب مجتمع السلطة على مجتمع الفقر ، وفي هذه الحالة يحدث نمو واضح في ابتكار القمع والخداع ودكتاتورية السلطة .
وفي هذه الحالة يكون صوت الحق مجرد دافع لتطور القمع .
يتململ الفقراء ويمتعضون ، فتطال الجزرة الأفواه الفاغرة وتطال العصى أهل الطوى من الأحرار .
وتتطور هذه الحالة لتقود إلى الخوف والإحباط ويتخلق الرضى بالواقع فلا يترك الجوع لصاحبه طاقة للمنازلة ، وتحيّد المبادئ ويستكين الضمير ولا يبقى من الصوت غير ما يحتاجه السوق ( حرية التعبير ، المعارضة ، الحوار ... الخ ) .
في هذه الحال يكون الوطن تحت احتلال مجتمع السلطة ، ويستحيل مجتمع الفقر إلى كومة من النازحين ، كل همه ما تجود به الدوله المضيفة ( الوطن القدر ) .
وبهذا ينتصر مجتمع السلطة في احتلال البلاد والإسقاط بمنافسه .
الخيار الثاني هو أن يثور مجتمع الفقر فيسقط مجتمع السلطة .
وتلك لحظة تحدث بلا ميعاد أو تحضير.
فيتركز القهر في حدث عارض وتتداعى كل الأحداث كمتنفس لطاقة تم تجميعها لعقود.
من السهل هزيمة مجتمع السلطة ، فهو جبان ويحفظ جداول ووجهات الرحلات ، وأينما اتجهت رحلة له هناك رصيد ومستظل وله من يستقبله ، إنهم يشبهون " مندريش" فهو يرعى بين فتحات مغارته ومن أي وجهة طاردته يجد فتحة للمغارة في الوجهة الأخرى .
سيختفي مجتمع السلطة بسرعة مذهلة .
لكن مهارات مجتمع الفقر في بناء السلطة ، كمهارات أطفال " تنكارة" في لعب البيسبول .
وستكون محاولاته كارثية لاعتبارات القيم التي يصدر عنها ( ستتزاحم المنظومة على مركز الثروة قبلية وطبقية وعرقية وجهوية وآيديولوجية ... الخ ) .
لأن ذلك هو ما يمتلكه مجتمع الفقر من موروث للسلطة .
وفي هذه الحال سيحتاج المنتصر لعقود حتى يستقر على صيغته .
وفي هذه الأثناء يتربى مجتمع سلطة جديد ويعيد التاريخ نفسه ساخرا من عبث الجهل بالحق .
ويحدث أيضا أن تستنجد الفوضى وتستعيد المهزومين للنزال ، ويحدث الفرق طبعا لصالح الخبرة والكفاءة والعلاقات ( الربيع العربي نموذجا ) .
أما الخيار الثالث فهو البدار لوضع مشروع لتقليص التسلط ومحاصرة النفوذ من خلال بناء مجتمع وسيط بين المجتمعين يتحلل فيه الفقر من جهة والثروة من جهة أخرى .
وهذا المجتمع هو الضامن الوحيد لرفع تبعات الاحتكاك المباشر بين مجتمعي السلطة والفقر .
وهي تبعات خطيرة كما أسلفت وحتمية أيضا ، فلن يستقيل مجتمع السلطة من تلقاء نفسه ، ولن يطول صمت مجتمع الفقر . وبهذا تكون إحدى الكارثتين تستجيب للنفاذ .
الوطن اليوم تحت احتلال مجتمعين ينبغي تحريره منهما .
و ينبغي وضع خطة واعية وجادة وقوية لهزيمة الفقر والفساد معا .