لم يكن حزب الله مجرد حزب مقاوم تمكن من تحقيق انتصارات باهرة في زمن الهزائم، ولم يكن حسن نصر الله مجرد زعيم مقاوم في زمن شح فيه الزعماء، وغاب فيه القادة.
كان حسن نصر الله أكثر من زعيم، وكان أكثر من قائد..
وكان حزب الله أكثر من حركة مقاومة..
وكانت الآمال المعلقة على الحزب وعلى أمينه العام كثيرة وعظيمة وجسيمة..
وكان من بين تلك الآمال: أن يَكْسُر الحزب وأمينه العام جبروت العدو الصهيوني، وهو ما كان..وتلك شهادة لا يمكن أن نكتمها حتى في مثل هذا الوقت الحرج الذي خذلنا فيه حسن نصر الله، وأذاقنا فيه من الخيبة ما لم يذقه لنا أي زعيم آخر، رغم ما ابتلعنا في حياتنا من خيبات.
وكان من بين تلك الآمال أيضا : أن يقدم هذا الحزب صورة مختلفة عن الشيعة، تساعد في التخفيف من حالة الانقسام والتشظي التي تعرفها الأمة، والتي تسببت في الكثير من الفتن بين الشيعة والسنة، والتي لم يستفد منها إلا أعداء الأمة.
كنا بحاجة إلى جماعة من الشيعة تقدم لنا صورة أقل سوادا من تلك الصور المخيفة التي يقدمها الشيعة في أكثر من مكان.
كنا بحاجة إلى حزب شيعي كحزب الله في سجله الكثير من الانتصارات على العدو الصهيوني، مقابل القليل من الخطابات الطائفية والحروب الطائفية..
وكنا بحاجة إلى زعيم شيعي شجاع، راجح العقل، فصيح اللسان، إذا وَعَدَ نفذ، وإذا حدَّث صدق، وإذا هدد أطلقت صفارات الإنذار في كل الأراضي التي يحتلها العدو الصهيوني.
كنا بحاجة إلى قائد كحسن نصر الله، في زمن الفتن هذا، وذلك لكي نقول لكل من يريد أن يشعل فتنة بين الشيعة والسنة، بأن في الشيعة ـ كما في السنة ـ قادة يحملون هموم الأمة، كما هو الحال بالنسبة لحسن نصر الله الذي استحق ـ وبجدارة ـ لقب سيد المقاومة.
كان حسن نصر الله سيد المقاومة بحق، وكان بطلا بكل المقاييس، ولو لم تكن في صحيفة حسن نصر الله إلا تلك الكلمة التي قالها في يوم عز وكبرياء لكفته: "المفاجآت التي وعدتكم بها ستبدأ من الآن... البارجة العسكرية التي اعتدت على بنيتنا التحتية... انظروا إليها تحترق، وستغرق ومعها عشرات الجنود الصهاينة".
وكم كان حسن رائعا، في ذلك اليوم الرائع، الذي نطق فيه بتلك الكلمات الرائعة، والتي كانت تبث بشكل مباشر.
ولكن المصيبة أنه بعد كل هذا التاريخ النضالي المشرف، وبعد أن لم يعد يفصل بين حسن نصر الله إلا ذراع واحد لكي يكون أشهر مقاوم في زماننا هذا، سبقت عليه الطائفة فعمل بعملها فتدخل في القصير، فساءت خاتمته النضالية والسياسة، وتحول بذلك من رجل أمة إلى رجل طائفة، فأهدر رصيدا عظيما من الحب والتقدير كان يمتلكه في قلوب الملايين من غير طائفته.
وهنا قد يقول قائل: إن وقوف حسن نصر الله مع بشار ونظامه ليس إلا نتيجة لقيم الرجل النبيلة، ولوفائه ولعرفانه بجميل بشار ونظامه الذي لم يبخل على الحزب بالدعم، وذلك في وقت كان فيه الجميع يُحاصر حزب الله.
كم هو جميل أن نضفي بعدا أخلاقيا على أي موقف سياسي نتخذه، ولكن أي رسالة أخلاقية يمكن أن نرسلها من خلال قتل الأطفال وتشريدهم؟ ومن هو الأحمق في هذا العالم الذي سيُعجب بوفاء حسن نصر الله لبشار إذا كانت فاتورة ذلك الوفاء مليئة بدماء الأبرياء العزل، وإذا كانت ستقضي ـ وهذا هو أخطر ما في الأمر كله ـ على آخر ذرة ثقة بين السنة والشيعة، كان على كل العقلاء من الطائفتين أن يرعوها بالسقاية حتى تكبر وتنمو، لأنه بدون نمائها فلن يكتب لهذه الأمة أن تتجاوز الفتن المشتعلة بين الطائفتين في أكثر من مكان.
كنتُ سأقبل ـ وفي هذه لا أتحدث إلا عن نفسي ـ من حزب الله، ومن أمينه العام أن يتخذ موقفا محايدا أو متفرجا مما يحدث في سوريا، مع أنه لا معني للحياد هنا، لأن ما حدث في سوريا لم يكن صراعا متكافئا، بل كان إبادة قرر نظام متوحش وباطش أن يردَّ بها على مطالب شعبه العادلة.
صحيح أن الأمور الآن في سوريا قد أصبحت شديدة التعقيد، وصحيح أيضا أن العنف في سوريا قد لا يتوقف حتى وإن سقط نظام بشار، وذلك بعد أن أصبحت سوريا قبلة لكل متشرد يحمل في قلبه قسوة، وعلى ظهره بندقية، وفي فكره تشددا وتطرفا.
حصل عنف في تونس وفي مصر بعد نجاح ثورتين سلميتين في إسقاط دكتاتوريين هناك، فكيف لا يحصل عنف في سوريا التي أجبر ثوارها على حمل السلاح في وقت مبكر؟
قطعا إن سوريا مقبلة على أيام عصيبة، حتى وإن سقط نظام بشار، ولكن ذلك لا يعني بأن ذلك النظام لا يتحمل ـ ولوحده ـ كل ما حصل، وكل ما سيحصل في سوريا، حتى من بعد سقوطه، وذلك لأنه هو الذي كان بإمكانه ـ ولوحده ـ أن يُجنب سوريا ما حصل فيها، وما سيحصل فيها من خراب ودمار واقتتال.
ويعرف حسن نصر الله أن النظام السوري هو الذي يتحمل سياسيا وأخلاقيا كل الجرائم التي ارتكبت في سوريا، بما فيها تلك التي ترتكبها أمريكا وإسرائيل، وذلك لأنه هو الذي أعطاهما ولغيرهما الفرصة في أن يجعلوا من سوريا ساحة لتنفيذ جرائمهم التي لن تتوقف أبدا.
ويعلم حسن نصر الله من قبل غيره بأن ما يجري في سوريا لا يمكن تبسيطه ووصفه بأنه مجرد معارك تدور بين طرف إسرائيلي أمريكي تكفيري من جهة، وطرف مقاوم في الجهة الثانية. ويعلم حسن نصر الله من قبل غيره بأن نظام بشار هو الذي كان يرفض الحوار، وهو الذي رفض أن يستخدم مسيلات الدموع ـ كما يفعل كل دكتاتوريي العالم ـ لمواجهة بدايات التحركات التي انطلقت من درعا، وهو الذي اختار أن يبدأ مباشرة باستخدام المدافع والدبابات ضد المواطنين السوريين العزل في أول تحرك لهم.
ويعلم حسن نصر الله من قبل غيره بأن بشار الذي ضحك ملء فيه وسط تصفيق بائس من مجلس بائس، خلال أول خطاب له بعد سقوط ضحايا في درعا، بأن هذا البشار ومنذ تلك اللحظة لم يعد مؤهلا ولا مؤتمنا على قيادة سوريا، ولا على أي حوار ينتظر منه أن يفضي إلى حل الأزمة السورية.
ويعلم حسن نصر الله أيضا بأن نظام بشار راحل لا محالة، ويعلم فوق ذلك كله بأنه في هذه المرة لم يقل صدقا عندما قال في خطاب الأمس: "كما كنت أعدكم بالنصر دائما أعدكم بالنصر مجدداً".
يعلم حسن نصر الله أكثر من غيره بأنه لن ينتصر في حربه هذه، ولن يتمكن إطلاقا من هزيمة الشعب السوري، وذلك لسبب بسيط جدا، وهو أن الشعب السوري يُدافع عن أرضه، وعن كرامته، وعن عزته، أمام جنود لا يمكن أن ننسبهم هذه المرة لحزب الله، وذلك بعدما أخطؤوا طريقهم فاتجهوا إلى القصير فساءت بذلك خاتمتهم.
ويبقى السؤال: ولكن ما دام حسن نصر الله يعلم كل ذلك، وأكثر من ذلك، فلماذا قرر أن يرتكب مثل تلك الحماقة الكبيرة؟
لن أجيب على هذا السؤال، ولكني في المقابل سأختم بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك حسن الخاتمة.
حفظ الله موريتانيا..