ما من صاحب فطرة إنسانية سليمة ووعي سياسي راشد إلا يتمنى فشل الانقلاب في النيجر، ويستهجن تسلط العسكر، ونزوعهم المزمن للتحكم في السياسة، وسعيهم البائس إلى إعادة النيجر إلى واجهة الأحداث بعناوين تسيء إلى صورتها من خلال ربطها مجددا بمظاهر الميول الاستبدادية وما تحيل إليه تلقائيا من مخاوف العنف السياسي؛ وهي ملامح ميزت صورة البلد لعقود، وطالما رافقتها ملامح المعاناة الإنسانية الناجمة عن تضافر تأثير التقلبات المناخية وانعدام الاستقرار السياسي وسوء الحكامة الاقتصادية، لكنها تراجعت كثيرا خلال السنوات الأخيرة – رغم جسامة التحديات الأمنية والصعوبات الاقتصادية – بتأثير الآمال التي بعثها مناخ الاستقرار السياسي وتحسن مستوى الحكامة.
غير أن إفشال العملية الانقلابية الجارية وتكريس الشرعية الدستورية في النيجر لن يكون فأل خير للبلد ومصدر ابتهاج لشعوب المنطقة إلا إذا جاء استجابة لحراك سياسي واحتجاجات داخلية ترغم العسكر على العودة إلى ثكناتهم؛ أما التدخل العسكري التي تخطف بروقه الأبصار من عواصم بعيدة وتهز رعوده كل بلدان الإقليم فإنه، حتى على افتراض نجاحه في استعادة عرش بازوم السليب، سيفشل في ضمان استقرار المنطقة وحماية وترسيخ ديمقراطيتها، وستنجر عنه تبعات ثقيلة يصعب تجاوزها أو احتواؤها في المدى المنظور.
لعل أولى المصاعب الذي تواجه التدخل العسكري الذي تلوح به مجموعة الاكواس، ومن ورائها بعض حلفائها الغربيين، هو الغطاء الدولي؛ فمجلس الامن الذي ساند التدخل العسكري لطرد جامي من غامبيا مشلول الآن ومعطل عمليا بسبب الفيتو الروسي، وربما الصيني، المحتمل ضد التدخل العسكري المرتقب. وهو ما سيطرح إشكالات قانونية وربما يضيف أيضا أعباء عسكرية ولوجستية ومالية بسبب الحرج الذي قد يستشعره الحلفاء الغربيون في دعم تدخل لا يستند إلى أي تفويض قانوني دولي. ولا شك أنه سيتعين على دول الاكواس وشركائها التفكير في هذه التعقيدات والبحث عن حلول لها قبل الإقدام على أي خطوة.
هناك أيضا الموقف الروسي الذي ما يزال ضبابيا إلى حد كبير، ربما بسبب الوضع الراهن لعلاقة موسكو وذراعها الباطشة في شبه المنطقة "ميليشيا فاغنر" ذات الحضور المؤثر في جارتي النيجر مالي وبوركينا فاسو الذين أبدى حكامهما تعاطفا ظاهرا مع الانقلابيين في نيامي وأعلنوا استعدادهم للوقوف إلى جانبهم من أجل التصدي لأي تدخل أجنبي؛ الأمر الذي يضفي مزيدا من التعقيد على الوضع الميداني يفترض أن تتحسب له الإكواس وحلفاؤها قبل المضي قدما في أي عملية عسكرية.
مصير الرئيس بازوم والهواجس المتعلقة بسلامته الشخصية يمثل عنصر تعقيد إضافي يواجه فكرة التدخل العسكري. حيث يوجد الرجل، على نحو ما، في قبضة الانقلابيين أو في متناولهم على الأقل؛ وهو ما يمنحهم ورقة قوة مؤثرة، إذ تعتبر المحافظة على سلامة الرئيس بازوم بوصفه رمزا للشرعية أمرا بالغ الأهمية لأي خطة تدخل عسكري تتوخى دحر الانقلاب ووضع حد لحالة الاستثناء الناجمة عنه.
الحالة الأمنية في شبه المنطقة التي توجد بها جماعات مسلحة تسيطر على مساحات تقارب 70%من مساحة فرنسا، وما عرفته معظم بلاد المنطقة، بما فيها النيجر، منذ الاستقلال من توترات وصراعات قومية، كل ذلك يدعو إلى التفكير بروية حول التأثيرات المحتملة لأي تدخل عسكري على تماسك الجيش النيجري بالذي يمثل رأس الحربة في مواجهة الجماعات المسلحة وحماية الأراضي النيجرية في وجه طموحات التوسع التي ربما تراود التنظيمات المسلحة التي تملك معسكرات في أكثر من واحد من بلدان الجوار، فضلا عن ما قد يسببه تفاقم الوضع الناتج عن الانقلاب ومحاولات إفشاله من إحياء للصراعات القومية في بلد ذي تجربة مريرة مع الثورات المسلحة وحالات التمرد.
لا شك أن كل هذه الاعتبارات لا تقلل من شأن الدوافع القوية التي تحرك دول الإكواس في اتجاه التدخل. وفي مقدمة هذه الدوافع الخوف من امتداد عدوى الانقلابات وعودة الاضطرابات السياسية التي عانت منها للمنطقة لفترات بسبب تقلب أمزجة القادة العسكريين واستبدادهم وفساد إدارتهم لشؤون الحكم؛ ومنها كذلك الاطمئنان للفرص التي يتيحها الوجود الميداني القوي لفرنسا التي لديها حوالي 1500جندي على الأراضي النيجيرية والولايات المتحدة الأمريكية التي لديها بالنيجر أكبر قاعدة للطائرات المسيرة خارج أراضيها. وربما تعول دول الإكواس على أن مصالح البلدان الغربية بالنيجر ستحملها على تقديم كل الدعم اللازم ولن تجازف بترك البلد يسقط في قبضة الروس أو يسير نحو المجهول، وربما تفضل أن تراه ضعيفا ومشتتا على أن تراه متمما، إلى جانب مالي وبوركينا فاسو، لأضلاع مثلث "المروق" من دائرة النفوذ الغربي والارتماء في أحضان الروس.
الانقلابات أو ديمقراطية المسيرات
خلاصة القول إن إفريقيا الغربية تعيش الآن مشاهد إعلان فشل "ديمقراطية لابول" بعد ثلاثة عقود من انطلاق هذه التجربة المدعومة من المستعمر التاريخي فرنسا التي طالما تحكمت في تحديد وتيرة الانتقال الديمقراطي ولم تترد في رعاية الانتكاسات التي واجهها المسار الديمقراطي في أكثر من بلد وفقا لمصالحها ولموازين القوى في العلاقة مع حلفائها المحليين.
إرهاصات هذا الفشل بدأت من تعثر تجارب التدخل في مواجهة الجماعات المسلحة في مالي التي انتهى الأمر فيها إلى إعلان فشل عملتي برخان وسيرفال وطرد الفرنسيين من مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وربما تتجلى بشكل أكثر عمقا وتأثيرا في التردي الذي يبدو أن الأوضاع تتجه نحوه في السنغال أول بلد في المنطقة وطأته أقدام الغزاة الفرنسيين.
إذا حصل التدخل العسكري في النيجر، وهو احتمال راجح جدا، ونجح في إعادة الرئيس بازوم إلى السلطة فإن المنطقة ستدخل عهدا جديدا سمته نوع من "الديمقراطية" المفروضة بالمسيرات العسكرية الغربية وليست نابعة من خيارات الشعب ولا تلبي طموحاته؛ ديمقراطية قائمة على استغلال مخاوف شعوب المنطقة من استفحال التطرف العنيف وتفاقم عدم الاستقرار السياسي، بما يخدم أجندات القوى الغربية ويكرس تبعية حكام المنطقة لها، في مشهد جديد من مشاهد التخادم بين ثلاثي الغلاة والطغاة والغزاة.