بدءا أنبه القارئ الكريم على أن هذه الورقة التي خصصتها للحديث عن تأمين التناوب السلمي على السلطة في منطقة يغيب فيها الأمن والاستقرار السياسي، وتكثر فيها الانقلابات العسكرية، هي ورقة من عشر صفحات، ولذا فعلى من لا يملك وقتا كافيا لقراءة ورقة من عشر صفحات، أن يتوقف بشكل فوري عن القراءة عند إكمال هذا التنبيه. أما بالنسبة لمن قرر أن يقرأها فأدعوه إلى قراءتها كاملة إلى أن يصل إلى خاتمتها التي تتضمن بعض المقترحات التي أرى بأهميتها.
ما لم يُقَل عن تأمين التناوب السلمي على السلطة!
مع أني كتبتُ عشرات الرسائل المفتوحة إلى عدد من الرؤساء الذين تعاقبوا على السلطة في بلادنا، إلا أن هناك رسالة واحدة تميزت عن كل تلك الرسائل المفتوحة، وذلك لكونها أرسلت إلى رئيس من قبل أن يستلم السلطة، فقد أرسلت هذه الرسالة في نهاية العام 2018، وتحديدا في يوم 26 دجمبر 2018، إلى رئيس موريتانيا القادم، والذي لم أكن حينها أعرفه، ففي تلك الفترة لم يكن الجدل حول المأمورية الثالثة قد حُسم، ولم يكن مرشح النظام قد عُرف.
في رسالتي المفتوحة تلك التزمتُ لرئيس موريتانيا القادم، بأني سأدعمه بعد تنصيبه رئيسا، وسواء بالنسبة لي أكان هو المرشح الذي دعمتُ في الانتخابات الرئاسية، أو لم يكن ذلك المرشح الذي دعمت. التزمت لرئيس موريتانيا القادم بأني سأدعمه بشرط وحيد ووحيد فقط، وهو أن يأخذ صلاحياته كاملة كرئيس، ويُؤَمِّن بالتالي التناوب السلمي على السلطة، وعندما يتم تأمين التناوب السلمي على السلطة فحينها سيكون لكل مقام مقال، وكنتُ في ذلك الوقت أعتقد أن تأمين التناوب السلمي على السلطة قد لا يحتاج لأكثر من سنة.
كنتُ على قناعة حينها ـ وما زلتُ كذلك ـ بأن التحدي الأكبر الذي ستواجهه بلادنا بعد التناوب السلمي على السلطة، سيكون تحصين ذلك التناوب من عدوى الانقلابات المتفشية في المنطقة، ذلك أنه بدون تأمين التناوب السلمي على السلطة فلا استقرار سياسي، ولا ديمقراطية، وبالتالي فلا إصلاح ولا تنمية.
في تلك الفترة التي نُشرت فيها تلك الرسالة المفتوحة استغرب البعض من اختصاري لكل المطالب والشروط الموجهة إلى رئيس موريتانيا القادم في نقطة واحدة، وهي انتزاع الصلاحيات كاملة، وبالتالي تأمين التناوب السلمي على السلطة. لم يكن البعض يُدرك حينها أهمية تأمين التناوب السلمي على السلطة، ولكني اعتقد أن الجميع قد بدأ يدرك الآن أهمية هذا المطلب بعد عدوى الانقلابات التي أصابت دول الساحل الخمس: ثلاثة انقلابات ناجحة في ثلاث دول، ومحاولة انقلابية في الدولة الرابعة، ولم تسلم من عدوى الانقلابات إلا الدولة الخامسة (بلادنا)ـ
إن تأمين التناوب السلمي على السلطة، وبالتالي توفير الشرط الأول من شروط الاستقرار السياسي يُعد إنجازا كبيرا في منطقتنا، ولن تستشعره إلا الدول التي لم تتمكن من تحقيقه، ولكم أن تتأملوا حال أربع دول من مجموعة الساحل، وحال دول أخرى في المنطقة لم تحظ بالاستقرار السياسي والأمني.
لم يكن هذا التناوب السلمي على السلطة ليتحقق، ولم يكن ليُؤمن من بعد ذلك ويُحَصن، إلا في ظل وجود الرئيس الحالي، ويمكنني أن أجزم تحليليا أنه لو ترأس أي رئيس آخر غير الرئيس الحالي في العام 2019 لما اختلف حال بلادنا اليوم عن حال بعض بلدان المنطقة التي شهدت انقلابات عسكرية على رؤساء منتخبين.
قبل الرسالة المفتوحة الموجهة إلى رئيس موريتانيا القادم، كتبتُ رسالة مفتوحة إلى رئيس موريتانيا السابق، تشجع على التناوب السلمي على السلطة، وأرسلتُ إليه كذلك بعض الرسائل التي لم تمر عبر القنوات الإعلامية المعروفة بنفس المضمون.
بالنسبة لي كنتُ أسعى إلى خروج آمن للرئيس السابق من السلطة، ولم أكن من دعاة فتح ملف فساد العشرية من بعد خروجه من السلطة، فالدعوة إلى فتح ذلك الملف قد تشجع على البقاء في السلطة من بعد اكتمال المأموريات الشرعية، ليس فقط بالنسبة للرئيس السابق، بل وبالنسبة لبعض الرؤساء الآخرين في المنطقة.
لا يعني هذا الكلام بأي حال من الأحوال أني أقلل من أهمية محاربة الفساد، فأنا من الذين يرون بأنه لا تنمية ولا إصلاح ولا تغيير من دون حربٍ جديةٍ على الفساد، ولستُ كذلك ممن يقللون من أهمية فتح ملف فساد العشرية، ففتح هذا الملف واستعادة الشعب لبعض أمواله المنهوبة سيبقى خطوة في غاية الأهمية من شأنها أن تكرس مستقبلا مبدأ المحاسبة. لا يمكنني أن أقلل من أهمية فتح ملف فساد كبير بحجم ملف فساد العشرية، وكلما في الأمر هو أني كنتُ أدرك أن للتناوب السلمي على السلطة فاتورة كبيرة يجب دفعها، والفاتورة بالنسبة لي كانت في أن يُترك الرئيس السابق يخرج من السلطة دون أي محاكمة (الخروج الآمن من السلطة مقابل التناوب الآمن)، فالتلويح بالمحاكمة كان يمكن أن يربك العملية كلها، والرئيس السابق كان بمقدوره دائما أن يعرقل ـ بشكل أو بآخر ـ عملية التناوب السلمي على السلطة من قبل خروجه منها، وحتى من بعد خروجه منها، إذا لم يكن خلفه يمتلك من القدرات والمؤهلات ما يكفي لسد كل الثغرات التي يمكن استغلالها للاستيلاء على السلطة بالقوة، وسواء كانت تلك الثغرات عسكرية أو شعبية، أو حتى خارجية.
لقد كنتُ من الذين يتمنون أن يخرج الرئيس السابق من السلطة دون أي التفاتة إلى الوراء، ودون أي تفكير في العودة إليها، وأن يُمَهد لذلك الخروج باتخاذ جملة من الإجراءات لعل من أبرزها:
1ـ تهدئة الأوضاع السياسية، وخلق جو تصالحي مع الجميع، وخاصة مع المعارضة؛
2ـ إنهاء خصوماته مع بعض الشخصيات المعروفة، وهو ما زال في السلطة، وخاصة منها تلك الخصومات المرتبطة ببعض رجال الأعمال؛
3ـ الأخذ بالشفافية في تسيير المال العام خلال الأشهر الأخيرة على الأقل من مأموريته الثانية، مع محاولة تصحيح ما يمكن تصحيحه من اختلالات سابقة في هذا المجال.
على العكس من ذلك، فسنجد أن الرئيس السابق قد حرص في أشهره الأخيرة على أن يعمق من حجم خلافاته مع المعارضة، وأن يُعَقد ملف رجال الأعمال أكثر، وأن يزيد من حجم الخروقات في تسييره للمال العام. وكان كل ذلك يوحي ـ لكل عاقل فطن ـ بأن الرئيس السابق لا يتصرف في أشهره الأخيرة تصرف مودعٍ للسلطة، فمن كان يتصرف كمودع للسلطة كان عليه أن يتصالح مع الجميع، لا أن يوسع خصوماته مع الجميع، أو يزيد من حدتها.
إن من تأمل في تلك التصرفات سيدرك أن الرئيس السابق كان يفكر ـ وبجد ـ في العودة إلى السلطة، إما عن طريق حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الذي تركه بلا رأس، أو عن طريق رجاله في الحرس الرئاسي أو في بعض القطاعات الأمنية الأخرى.
سيتحدث الرئيس السابق فيما بعد، وفي أكثر من مؤتمر صحفي، بأنه لن يتخلى عن حقه في ممارسة العمل السياسي، وبطبيعة الحال فإن إصرار أي رئيس سابق على الاستمرار في ممارسة العمل السياسي يعني بلغة سياسية فصيحة وصريحة أنه يفكر ـ بل ويخطط ـ للعودة إلى السلطة.
أذكر أني في يوم 22 يوليو 2019، وقبل خروج الرئيس السابق من القصر الرئاسي بعشرة أيام بالضبط، نشرتُ مقالا مطولا تحت عنوان: " أي دور لولد عبد العزيز في المرحلة القادمة؟". ولقد بينت في ذلك المقال أن الرئيس السابق سيخرج من السلطة ويداه خاليتان من أي ورقة ضغط فعالة يمكن أن يضغط بها على خلفه، وأن من مصلحته الشخصية أن يُحافظ على الثقة مع خلفه وأن يعززها، وأن يبتعد بشكل كامل عن السياسة والإعلام، وكانت هذه هي خاتمة المقال المذكور: " تقول الفرضية الأنسب بأنه على الرئيس المنتهية ولايته أن يخرج بشكل كامل من المشهد السياسي فذلك هو الأسلم له ولموريتانيا، وإن هو أصر على ممارسة "حقه" السياسي، فسيكون من حق خصومه السياسيين أن يصروا هم أيضا على ممارسة حقوقهم السياسية، ومن تلك الحقوق المطالبة بفتح تحقيق شامل حول تسيير شؤون البلاد خلال العشرية الماضية." انتهى الاستشهاد.
وأذكر أيضا أني كتبتُ مقالا آخر بعد خروجه من السلطة، وسفره إلى الخارج، ومن قبل عودته إلى موريتانيا، وتحديدا في يوم 15 أكتوبر 2019 تحت عنوان " ومن المناصرة ما قتل"، وهو مقال موجه بالأساس إلى مناصري الرئيس السابق، وقد جاء فيه : "إن ما يقوم به بعض أنصار الرئيس السابق من عمليات تشويش، ومن محاولة إظهار الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني وكأنه لا يتحكم في الحزب سيؤدي في المحصلة النهائية إلى اهتزاز الثقة بين الرئيسين السابق والحالي، وعندما تهتز تلك الثقة وتتسع الفجوة بينهما، فإن الرئيس السابق سيجد نفسه وقد أصبح رئيس "نظام بائد"، وفي مواجهة غير متكافئة مع السلطة الحاكمة ومع المعارضة ومع رأي عام وطني يرى بأن العشرية الماضية قد شهدت الكثير من الفساد والنهب، والأدلة واضحة على ذلك، فكثير من المؤسسات العمومية قد تم إفلاسها، والكثير من الممتلكات والعقارات العامة قد تحولت إلى أملاك خاصة.
إن أي محاولة لفرض أي دور سياسي للرئيس السابق ستفشل، ولن يكون من نتائجها إلا أنها ستجعل الرئيس السابق هدفا سهلا ومكشوف الظهر للنيران الصديقة ولنيران الخصوم، ولذلك فإن أكبر خدمة يمكن أن تقدم للرئيس السابق ـ لمن تهمه بحق مصلحة الرئيس السابق ـ هي أن يُبْعد اسمه عن التداول اليومي وعن النقاش السياسي الدائر حاليا، وأن يتركه يواصل ـ وبأمان ـ تنقلاته بين الدول الأوروبية." انتهى الاستشهاد.
كان يمكن للدولة الموريتانية أن تقترح الرئيس السابق لشغل منصب أو وظيفة إقليمية أو دولية أخرى في حالة اعتذرت الأمم المتحدة عن انتدابه ممثلا لها في ليبيا، ولكن المشكلة أن الرئيس السابق كان مصرا على ممارسة السياسة هنا في موريتانيا، وكان عاقدا العزم على إرباك المشهد السياسي، وفي هذا الإطار جاء اجتماعه المثير بلجنة تسيير حزب الاتحاد من أجل الجمهورية مساء الأربعاء الموافق 20 نوفمبر 2019، وهو الاجتماع الذي صدر بموجبه بيان في وقت متأخر من الليل، تقترب صياغته من صياغة البيانات رقم1، وقد تضمن ذلك البيان ثمان فقرات أشادت بإنجازات العشرية، وتحدثت عن توجيهات "الرئيس المؤسس"، ولم تذكر رئيس الجمهورية الحالي إلا في فقرة واحدة من الفقرات الثمانية (الفقرة السادسة)!
لقد وصفتُ ذلك الاجتماع في مقال نُشر حينها بالاجتماع القاتل، وإليكم فقرة من مقال كتبته ساعات قليلة بعد ذلك الاجتماع:" إن أول ملاحظة يمكن الخروج بها من اجتماع البارحة هو أننا قد دخلنا مرحلة جديدة لن تكون سهلة. لقد قرر الرئيس السابق أن يخاطر من جديد وأن يغامر، وهو الذي تعود على المخاطرة، والمُخاطر إما أن يكسب كل شيء أو يخسر كل شيء، فهل ستكون هذه هي آخر مخاطرة سياسية للرئيس السابق؟". انتهى الاستشهاد.
قرر الرئيس السابق ليلة اجتماعه بلجنة تسيير الحزب أن يعلن عن حرب مكشوفة مع خلفه، قرر ذلك وهو لا يحمل معه غير سلة بيض، فكانت النتيجة ـ وكما كان متوقعا ـ أن تكسر كل ما في السلة من بيض.
إن استعادتي اليوم لبعض أحداث الأشهر الأولى من مأمورية الرئيس محمد الشيخ الغزواني في هذا الورقة كانت من أجل أن أصل معكم إلى استنتاج من نقطتين:
أولهما، أن الرئيس السابق كان يفكر بجد في العودة إلى السلطة، وكان يمتلك لذلك حزبا حاكما تركه بلا رأس، ونفوذا قويا في المؤسسة العسكرية، ولحمة وطنية مفخخة، وخبرة كبيرة في الانقلابات العسكرية؛
ثانيهما، أن الرئيس الحالي هو الشخص الوحيد الذي كان بإمكانه أن يوقف طموح الرئيس السابق في العودة إلى السلطة، وأن يُغلق كل المنافذ التي كان بإمكان الرئيس السابق أن يستخدمها للعودة إلى السلطة.
لقد أمن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني التناوب السلمي على السلطة من خلال العمل على:
1 ـ عزل الرئيس السابق سياسيا، وفصله بشكل كامل عن أغلبيته، والعمل على عدم السماح له بخلق أي كتلة داعمة مهما كان حجمها، حتى ولو كانت كتلة ممن يشتركون معه في ملف فساد العشرية؛
2 ـ التهدئة السياسية مع المعارضة؛
3 ـ نزع ما يمكن نزعه من مفخخات وألغام تمت زراعتها خلال العشرية لغرض تفجير اللحمة الوطنية متى كانت هناك "حاجة" لذلك؛
4 ـ غلق كل المنافذ "العسكرية" و "الخارجية" التي كان يمكن أن يستغلها الرئيس السابق للعودة إلى السلطة.
إن تأمين التناوب السلمي على السلطة وتحصينه، لا يعني فقط وقف طموح الرئيس السابق في العودة إلى السلطة، بل يعني كذلك ضرورة تأمين الانتقال بين الديمقراطية العسكرية، إن جازت هذه التسمية، والديمقراطية المدنية.
إن الانتقال الآمن من ديمقراطية تتحكم فيها المؤسسة العسكرية أو بعض القادة العسكريين، إلى ديمقراطية مدنية خالصة، ليس بالخطوة البسيطة ولا الآمنة دائما، خاصة في منطقتنا، حيث يرفض العسكريون أن يبتعدوا عن الشأن السياسي، وحيث ما زالت النخب المدنية عاجزة عن بلورة مشاريع سياسية وطنية قابلة للنماء والتطور، وقادرة على أن تستقطب المواطنين بعيدا عن الخطاب القبلي أو الشرائحي أو الفئوي أو المناطقي.
في اعتقادي الشخصي أن الرئيس المؤهل أكثر من غيره لقيادة فترة انتقالية بين الديمقراطية العسكرية والديمقراطية المدنية، هو الرئيس محمد الشيخ الغزواني، وذلك لكونه قادما من المؤسسة العسكرية التي قادها خلال أفضل عشرية في تاريخها، فهو محل ثقة هذه المؤسسة، ولكونه أيضا رجل حوار وتهدئة وانفتاح على المدنيين، وهو ما ظهر بشكل واضح خلال السنوات الأربع الماضية، ولذلك فهو أيضا محل ثقة المدنيين.
ولإدراك أهمية هذه المرحلة الانتقالية التي لا يمكن تجاوزها، والتي لا يمكن أن يتولاها رئيس مدني خالص (فشلنا في إدارتها في العام 2007 ـ 2008 بسبب وجود رئيس مدني لم يستطع أن يحصن نظامه من عدوى الانقلابات العسكرية)، ولإدراك أهمية هذه المرحلة، فدعونا نأخذ هذا المثال من خارج حدودنا.
عن الدرس المصري
لقد كنتُ من الذين دعموا ـ ومنذ أول يوم ـ الثورات العربية، فكنتُ من مناصري الراحل محمد مرسي في أول انتخابات عرفتها مصر بعد ثورتها، وناصرته بعد فوزه في الانتخابات، ثم تضامنتُ معه بعد الانقلاب عليه، وحزنت كثيرا لوفاته في السجن.
هذا ما كان، وربما لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لاتخذتُ نفس المواقف، ولأسباب عاطفية بحتة. أما إذا ما أبعدتُ العاطفة قليلا، واستمعت إلى صوت العقل، فسأجد أنه كان من الأفضل لمصر ولديمقراطيتها المتعثرة أن يفوز المرشح أحمد شفيق، والذي هو ابن الدولة العميقة، القادم من المؤسسة العسكرية، والراجح أنه كان سيؤمن التناوب السلمي على السلطة، وكان سيجنب مصر انقلاب 3 يوليو 2013، فأحمد شفيق يعرف جيدا كيف يحمي نفسه من نظام هو أحد رجالاته، وكان فوزه سيمكن في نفس الوقت من تحسين حال مصر على المستوى الديمقراطي ..صحيح أن ذلك الفوز لم يكن ليحقق طموح ومطالب الثورة، ولكنه مع ذلك كان سيسير بمصر في الاتجاه الصحيح، حتى وإن كان ذلك ببطء، وكان سيطور ـ وبشكل آمن ـ من ديمقراطيتها. لقد كانت مصر تحتاج في تلك الفترة لرئيس منتخب ذي خلفية عسكرية يمتلك خبرة ورؤية إصلاحية، وله علاقة ما بالدولة العميقة، أي أنها كانت بحاجة إلى رئيس من طينة أحمد شفيق. فاز محمد مرسي وارتكب بعض الأخطاء لنقص في الخبرة والتجربة، وتآمر عليه العسكر والدولة العميقة، وتم في نهاية المطاف الانقلاب عليه، وكان في المحصلة النهائية أن عادت التجربة الديمقراطية في مصر سنين عديدة إلى الوراء.
ليس كل عسكري رئيس فاشل، وليس كل مدني رئيس ناجح
من الناحية النظرية البحتة يمكننا أن نقول إن الرئيس التونسي الحالي يشكل ـ من حيث الصفات والميزات ـ أفضل نموذج يمكن أن نتخيله للرئيس المدني الذي تطمح شعوب المنطقة لأن يحكم في بلدانها، فهو أستاذ جامعي متخصص في القانون الدستوري، نجح بأصوات المواطنين، وخاصة الشباب، دون أي تزوير أو إنفاق للأموال، ودون أن تكون خلفه دولة عميقة أو لوبيات فساد.
هذا الرئيس المدني النموذج، والذي يتصف بكل الصفات والمقاييس المطلوبة شعبيا وديمقراطيا، هو نفسه الرئيس الذي سيتخذ خطوات يصعب أن يتجرأ عليها عسكري انقلابي، فهو الرئيس الذي سيقيل الحكومة في يوم 25 يوليو 2021، ويجمد عمل البرلمان، ويرفع الحصانة عن النواب، ويلغي الدستور، يفعل ذلك كله بين عشية وضحاها.
وكان آخر ما قام به مما لم يتجرأ عليه الانقلابيون العسكريون في المنطقة هو أنه استدعى مديرة التلفزيون التونسي إلى مكتبه، ليوبخها وينتقدها بشدة، وليتدخل لها ـ علنا ـ في نوعية البرامج التي تستحق أن تبث، وكذلك في ترتيب الأخبار في النشرات، وفيمن يستحق أن يُستضاف في التلفزيون، ومن لا يستحق أن يستضاف!!!
في المقابل، فإن صاحب أفضل تجربة حكم في إفريقيا في العقود الأخيرة، هو رئيس رواندا، والذي هو ـ بالمناسبة ـ ليس مجرد عسكري فقط، بل هو زيادة على ذلك كان قائد ميليشيا في واحدة من أكثر الحروب الأهلية فظاعة في إفريقيا.
إن أي عملية تقييم لأداء الأنظمة الحاكمة في إفريقيا في الوقت الحالي، ستوصلنا إلى نتيجة صادمة، مفادها أن الرئيس المدني النموذج من الناحية النظرية هو الرئيس الأكثر دكتاتورية في القارة، والرئيس القادم من ميليشيا عسكرية هو الرئيس الأفضل أداءً في القارة.
ربما تكون هذه الفقرة الأخيرة صادمة، وهي بالفعل كذلك، ولكن كان لابد منها للتمهيد لاستعراض النقاط السريعة التالية:
1 ـ هناك عبارة من قبيل "لا لحكم العسكر" كثُر تكرارها لدى النخب في العقود الأخيرة، لدرجة أننا أصبحنا نعتقد أن الخلاص ـ كل الخلاص ـ في الحكم المدني، وأن كل مشاكلنا ستحل عندما ننتخب رئيسا مدنيا. ليس الأمر بكل هذه البساطة التي يتصورها البعض، فقد ننتخب رئيسا مدنيا في انتخابات شفافة، ومع ذلك فقد لا تحل مشاكلنا، بل إنها قد تتفاقم، والأمثلة على ذلك كثيرة؛
2 ـ من النادر جدا أن ينقلب ضابط عسكري على رئيس مدني ناجح في إدارة شؤون الحكم في بلاده. إن أغلب الانقلابات العسكرية كانت ضد رؤساء فاشلين في إدارة شؤون البلدان التي يحكمونها، وفشل أولئك الرؤساء هو الذي يبرر به العسكريون انقلاباتهم. صحيحٌ أن الانقلابات العسكرية تتسبب دائما في تعقيد الأوضاع أكثر، وفي فشل أكبر، وتأتي دائما بما هو أسوأ مما كان عليه الحال قبل الانقلاب، ولكن الصحيح أيضا هو أن الانقلابات لا تأتي في العادة إلا بعد فشل كبير للأنظمة المُنْقلب عليها، مدنية كانت أو عسكرية؛
3ـ كل الانقلابات التي حدثت في منطقتنا وجدت دائما أجنحة مدنية تدعمها، وتدافع عنها..يعني هذا أن النخب المدنية تتحمل مسؤولية مزدوجة فيما يحدث في المنطقة من انقلابات، ففشل بعض المدنيين في إدارة شؤون الحكم في بلدانهم يستخدمه عادة العسكريون كحجة لتبرير انقلاباتهم، ثم إنه بعد الانقلاب تكون دائما هناك طائفة من المدنيين تبرر ذلك الانقلاب وتشرعه، ومن هنا تظهر المسؤولية المزدوجة للمدنيين، وهي مسؤولية تأتي من قبل الانقلاب من خلال التهيئة له بالفشل في إدارة شؤون البلاد، وتأتي كذلك من بعد الانقلاب من خلال دعم بعض المدنيين له، والخروج في المسيرات والمظاهرات الداعمة للانقلاب.
4 ـ إن القيادة الناجحة في إدارة شؤون البلدان لا ترتبط بجينات وراثية توجد لدى المدنيين فقط، فالعسكري كما هو الحال بالنسبة للمدني يمكن أن يكون قائدا ناجحا، ويمكن كذلك أن يكون قائدا فاشلا، وصاحب الشهادة الجامعية المتواضعة قد يتمتع بميزات قيادية قد لا تكون متوفرة لدى حامل شهادة الدكتوراة في أكثر من تخصص. هناك صور نمطية ارتسمت في مخيلاتنا عن القائد الناجح، قد لا تكون دقيقة في كل الأحوال وفي كل الأوقات؛
5 ـ هناك أوقات وظروف قد يكون فيها انتخاب رئيس ذي خلفية عسكرية أفضل، وهناك أوقات يكون فيها انتخاب رئيس مدني خالص أفضل. وإذا ما تحدثنا بشكل خاص عن بلدنا، فإني من الذين يرون بأهمية وجود فترة انتقالية بين الديمقراطية العسكرية والديمقراطية المدنية، وهذه الفترة يجب أن لا تقل حسب وجهة نظري الخاصة عن مأموريتين. فكما بينتُ سابقا في بداية هذه الورقة، فلو أنه حكم البلاد في العام 2019 رئيس غير الرئيس الحالي الذي قاد الجيش لأكثر من عقد لما اختلفنا اليوم عن بقية دول المنطقة التي شهدت انقلابات على رؤساء منتخبين، ويمكنني أن أجزم تحليليا بأن خطر الانقلاب سيبقى قائما خلال السنوات القادمة، خاصة وأن عدوى الانقلابات تتفشى بسرعة كبيرة في المنطقة، وتعطش بعض العسكريين للانقلابات سيبقى قائما، بل سيزيد في ظل انحسار وتراجع الديمقراطية في المنطقة. يمكن أن نضيف إلى ذلك صراع النفوذ العسكري بين القوى الكبرى، ودخول الروس كلاعب خشن في المنطقة، وفقدان العديد من البلدان في المنطقة السيطرة على بعض أراضيها لصالح حركات وجماعات مسلحة، كل ذلك سيجعل انتخاب رئيس مدني خالص لقيادة البلاد في المرحلة القادمة مجازفة كبيرة، ومن الصعب عليه أن يواجه التحديات الأمنية في المنطقة، وعلى رأسها صراع النفوذ العسكري بين القوى العظمى، وتنامي الإرهاب وصعود الحركات المسلحة، ومن الراجح أنه سيفشل في مواجهة تلك التحديات، وأن فشله سيضع البلاد أمام مخاطر كثيرة لن يكون أقلها خطورة حصول انقلاب عسكري جديد ينضاف إلى لائحة الانقلابات التي شهدتها بلادنا خلال العقود الأربعة الماضية؛
6 ـ يبقى من المهم جدا أن نجعل من المأمورية القادمة فترة لبناء مؤسسات دستورية قوية، ولتهيئة الأرضية لحكم مدني خالص، ويمكن لوثيقة اتحاد قوى التقدم والتكتل أن تكون أساسا نظريا يعتمد عليه في هذا المجال. إن تهيئة الأرضية لحكم مدني خالص تتطلب بناء وترسيخ علاقة جديدة بين المدنيين والعسكريين، يتوقف بموجبها العسكريون عن ممارسة الوصاية على البلد، والتفكير في الانقلابات كلما حدث انسداد سياسي، أو فشل في تسيير شؤون الحكم، ويتوقف كذلك المدنيون عن الاستنقاص من العسكريين، ووصفهم بالجهل أو غير ذلك من الصفات الدونية، وبالمناسبة فإن الكثير من الضباط، وخاصة الضباط الشباب هم من حملة الشهادات الجامعية.
هذه النقاط الست استعرضتها هنا لتوضيح بعض الأمور التي تغيب عن نقاشاتنا عند الحديث عن الانقلابات، فإذا كان العسكري الذي يخرج من ثكنته إلى القصر الرئاسي للاستيلاء على الحكم هو من يتحمل المسؤولية الأكبر في الانقلاب، فإن هناك شركاء آخرين يجب أن لا نغفل عن مسؤولياتهم عند أي حديث عن الانقلابات العسكرية، وعلى رأس أولئك الشركاء أي رئيس يفشل في إدارة حكم البلاد، ويهيئ بالتالي الأرضية لحصول انقلاب عسكري، ثم تأتي من بعد ذلك النخب السياسية والإعلامية التي لا تؤدي دورها المطلوب للمساهمة في تحصين البلاد من الانقلابات.
ويبقى السؤال الأهم: كيف نحصن بلادنا من الانقلابات؟
هذا هو السؤال الأهم في هذه الورقة، والتي أعدت أصلا من أجل البحث عن جواب له، فمن أجل أن نحصن بلادنا ونؤمنها من الانقلابات في منطقة تنتشر فيها عدوى الانقلابات، فإنه لابد من أن تتحمل كل الأطراف المعنية مسؤولياتها، وهذه المسؤوليات تتفاوت في الدرجات بطبيعة الحال.
على النخب أن تتحمل مسؤوليتها، وعلى السياسيين بشكل خاص أن يتحملوا مسؤولياتهم، وعلى النظام الحاكم، وخاصة الرئيس المنتخب أن يتحمل مسؤولياته، وتبقى مسؤولية الرئيس في تحصين البلاد من الانقلابات هي المسؤولية الأكبر، فالتجارب تقول دائما بأنه يصعب على أي عسكري أن يفكر في انقلاب إذا كانت أحوال البلد بخير، وإذا كانت شؤون البلاد تُدار بشكل جيد.
إني على قناعة تامة بأن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني هو الرئيس الأجدر والأقدر على إدارة شؤون البلاد خلال المأمورية القادمة، والتي لن تكون في الغالب مأمورية سهلة نظرا لوجود بلادنا في منطقة غير مستقرة سياسيا وأمنيا، وتشهد بداية صراع نفوذ قوي بين القوى العظمى.
لن تكون المأمورية القادمة سهلة، ولن يكون ما قيم به خلال المأمورية الأولى لتأمين التناوب السلمي على السلطة، كافيا لتأمينه خلال المأمورية الثانية.
إن تأمين التناوب السلمي على السلطة خلال المأمورية القادمة يحتاج إلى المزيد من العمل في مجالات شهدت تحسنا خلال المأمورية الأولى كالاهتمام بالفئات الهشة، والتهدئة السياسية، وتعزيز الوحدة الوطنية، ويحتاج أيضا إلى عمل كبير في مجالات أخرى لعل من أبرزها:
1 ـ إعلان حرب حقيقية وجدية على الفساد، وإذا كانت المأمورية الأولى قد شهدت فتح ملف فساد العشرية، فإن المأمورية الثانية يجب أن تشهد فتح ملف "فساد الخمسية"، أي أن تُفتح كل ملفات الفساد التي شهدتها المأمورية الأولى، وأن يتم التعامل مع مفسدي الخمسية بصرامة أقوى وبقسوة أشد مما حصل مع مفسدي العشرية.
لا يمكن تأمين البلاد من الانقلابات إلا من خلال محاربة جدية وحقيقية للفساد، ويبقى الفساد هو العنوان الأبرز الذي يبرر به عادة الانقلابيون انقلاباتهم، ولذلك فهم يجدون دائما مستوى جيدا من التعاطف لأن الشعوب لم تعد تقبل باستمرار الفساد ونهب ثرواتها دون حساب أو عقاب؛
2 ـ البحث عن الكفاءات وتعيينها، فلا يمكن إحداث إصلاح دون مصلحين، ولأن الوظائف تتمايز من حيث الأهمية، ومن حيث الصلة بالمواطن، فإنه من اللازم وضع لائحة بالوظائف ذات الحساسية الأعلى، والتي من بينها الوزارات والمؤسسات الخدمية : التعليم ـ الصحة ـ الماء ـ الكهرباء ـ تشغيل الشباب، وكذلك القطاعات الإنتاجية : الزراعة ـ الصيد ـ الثروة الحيوانية ـ المعادن .
هذه القطاعات الخدمية والإنتاجية يجب أن يُبحث لها عن كفاءات متميزة، ويجب أن يمنح لمن تم تعيينهم فيها المدة الزمنية الكافية لإحداث تغيير. لابد من منح من يتم اختيارهم وفق شروط قاسية لتولي تلك الوظائف مدة زمنية كافية لإحداث تغيير إيجابي، ولن يكون هناك إصلاح داخل تلك القطاعات، حتى وإن افترضنا وجود الرغبة والكفاءة فيمن يدير تلك القطاعات في ظل عدم الاستقرار في المناصب، فمثلا وزارة التهذيب والصحة والزراعة ووزارات أخرى تعاقب على كل واحدة منها أربعة وزراء خلال أربع سنوات فقط، أي بمعدل وزير جديد كل سنة.
إن سوء الخدمات التي تقدم للمواطن، سواء تعلق الأمر بالصحة أو التعليم أو الكهرباء أو الماء أو التشغيل، وضعف الإنتاج في القطاعات الإنتاجية كالزراعة والصيد والتنمية الحيوانية والمعادن. إن سوء الخدمات وضعف الإنتاج يُعَدَّان من أكثر الأمور التي تتسبب في سخط المواطنين وتنامي الاستياء عندهم، وبالتالي توفير الأرضية للانقلابات، ولذا فلا بد من منح هذه القطاعات الخدمية والانتاجية اهتماما خاصا.
3 ـ العمل على عصرنة الإدارة وتقريب خدماتها من المواطن بشكل حقيقي ودائم؛
4 ـ على مستوى دور النخب، فلابد من ميلاد تيار إصلاح قوي يواكب المأمورية الثانية بحيوية ونشاط، ويستخدم أساليب عمل جديدة تختلف عن الأساليب التقليدية المعروفة لدى الأطر السياسية التقليدية سواء كانت في الأغلبية أو المعارضة. هذا التيار الإصلاحي يجب أن يُبادر إلى ترشيح فخامة رئيس الجمهورية لمأمورية ثانية، ويجب أن يُسارع من بعد ذلك إلى العمل من أجل أن تكون المأمورية الثانية مأمورية لخوض حرب جدية وحقيقية ضد الفساد والمفسدين، ولتقريب خدمات الإدارة من المواطن، وأن تكون كذلك مأمورية للبحث عن الكفاءات التي تمتلك القدرة والرغبة في الإصلاح، وتعيينها في الوظائف المهمة، خاصة منها تلك التي ترتبط بالقطاعات الخدمية والإنتاجية.