العنوان ليس وليد اللحظة أو المناسبة، لأنه متجذر في قراءة تحليلية للظاهرة الغزوانية عمرها سنوات. إنه يستعيد الفصل الثالث بعنوان: "قراءة في الصمت والكلام والمنهج السياسي لدى القائد المفاجأة". من كتابنا الذي نشرناه الكترونيا عام 2020، وقدم باعتباره الكتاب الأول ضمن "سلسلة: على طريق الجمهورية الرابعة". وقد جمعنا في الكتاب المذكور 15 مقالا ودراسة نشرت في الفترة من 31 يناير 2019 إلى 7 يونيو من نفس العام بعنوان: "حديث القلب والعقل في رئاسيات 2019".
في 31 يناير 2019 كتبنا: "إن معادلة "القلة" و "الكثرة" في "الصمت" و "الكلام" ... هي ... اللغز الأكبر الذي يواجه المراقبين والأطراف المعنية في رئاسيات 2019 التي تم إعلان محمد ولد الشيخ محمد أحمد ولد الغزواني المرشح الأوفر حظا لنيل ثقة الموريتانيين فيها. وكم أشعر في أحيان كثيرة بالشفقة على هؤلاء الصحفيين والسياسيين والعامة الذين لا يحسنون قراءة أو سماع شيء آخر سوى الكلام، عندما يصطدمون "بالندرة" غير المسبوقة في الخطابات المنسوبة لهذا الرجل، الذي يستعد في شهور قليلة ليكون الرقم الأول في حياة الموريتانيين".
ثم أضفت: " رجل أحيل إلى التقاعد، بعد عقود من العمل في الجيش ... صامتا. رجل أدار البلاد بصمت طيلة فترة استشفاء الرئيس محمد ولد عبد العزيز في باريس، تاركا الكلام والواجهة لرئيس الجمعية الوطنية والوزير الأول. ... مرشح للرئاسة لم يعلن هو شخصيا عن ترشحه، و لم يصدر عنه في الموضوع إلا حديث يتركب من 9 كلمات لصحيفة Jeune Afrique التي انتهزت فرصة وجوده في باريس فوجهت إليه السؤال حول ترشحه المعلن في نواكشوط، ليرد قائلا : "الرئيس تحدث بالفعل مع بعض الأشخاص في هذا الموضوع".
"أعتقد أن لسان حال هذا الرجل وإنهاءه للخدمة في صمت، وصمته في مواجهة الاستفزازات من أطراف في الأغلبية كما في المعارضة - ممن ليس ثمة مبرر لهجومهم عليه - ... أقرا فيه حلما جميلا لموريتانيا في أفق 2030، وأسمع فيه خطابا واعدا بالكثير مما يستحق صاحبه أن يجرب".
وفي يوم 3 مارس 2019، كتبت: "قال أبو حيان التوحيدي: "الكلام على الكلام صعب"، لكنني أقول: إن الكلام بمناسبة غياب الكلام، أو قلته أصعب. كم كان مأزق بني إسرائيل صعبا عندما ردت مريم العذراء على أسئلتهم الساقطة قائلة: "إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا" ... أنذرتكم أيها "الظاهريون" و "السطحيون" و "المسطحون" من سياسيين وصحفيين ومدونين، من البقاء في سجن تحليلاتكم التقليدية. وقلت لكم أن تتصلوا بنا نحن أصحاب الحاسة السادسة ... لنساعدكم على سماع كلام الصمت وقراءة ما قاله الخطاب دون أن يقوله. لنمكنكم من فك شفرة الخطابات التي ترمز إليها المسلكيات ومنهجيات العمل والحركة لدى هذا النوع المقل في الكلام من الرجال. لكنكم لم تستمعوا إلى، وأصررتم على مواجهة "الظاهرة الغزوانية" ذات الطبيعة الخاصة والمتفردة بآليات تحليل تقليدية ومتخلفة، تتميز بمحدودية الأفق وضيق الخيال. ولهذا عرفت الشهور الماضية مراكمتكم لكتل من الأخطاء المضحكة والمبكية بآن".
اليوم بعد مرور 4 سنوات على تنصيب رئيس الجمهورية، تجلت لنا واضحة معالم استراتيجية الإعلام والاتصال الخاصة بهذا القائد الفذ، والتي لا أجد لها اسما أفضل من "استراتيجية الصمت الجمهوري".
وفي انتظار أن تتاح لنا فرص أخرى للتوسع في تناول الموضوع، أكتفي هنا بتسجيل ثلاث ملاحظات، حول طبيعة وخصوصية هذه الاستراتيجية والمسحة الأخلاقية التي تضفيها على القيادة السياسية وقدرتها المميزة في إرباك وهزيمة الخصوم السياسيين ودفعهم إلى مستنقع الهبوط الأخلاقي والفجور الكلامي.
ماذا نقصد بالصمت الجمهوري ولماذا نسميه كذلك؟
الطريف أن الكثير منهم روجوا لدعوى عدم قدرة الرجل على ألقاء خطاب متماسك، الى أن ألقمهم حجرا بخطاب ترشحه، الذي تميز بمستوى من الفصاحة واللغة العالمة لم نعهده لدى قادة البلاد منذ عهد الراحل المختار ولد داداه. ومنذ تسلم الرجل لمهامه رئيسا للجمهورية وعلى امتداد السنوات الأربع الماضية قطعت خطاباته مع الشعبوية الثرثارة التي ميزت خطابات ولد الطايع وولد عبد العزيز. ووجد الموريتانيون أنفسهم في مواجهة رئيس "المشترك الوطني". رئيس يترك للقضاء القضايا المعروضة أمامه، ويترك للبرلمانيين والسياسيين مجالهم، كما يترك للوزير والوالي والعمدة عمله، وللعلماء والخبراء مجالات اختصاصهم. آو قل بكلمة واحدة: "رئيس ينتهج الصمت سياسة تجاه مجال "اللامشترك الوطني" ويخصص كلامه لهموم "المشترك الجمهوري".
ما هي الدلالة والقيمة الخلقية لهذا الصوم والاقتصاد الكلامي وهذا الصمت الواعي؟
جوابي وعلى الله الاتكال، أن الرجل ينتمي إلى دائرة الأخلاق أكثر مما ينتمي إلى دائرة السياسة، وكم هو كبير حزننا في مواجهة نخبنا السياسية التي حسمت أمرها، وأسست خياراتها على القطيعة التامة بين السياسة والأخلاق. يتعلق الأمر هنا بأبن الشيخ محمد أحمد ولد الغزواني، وربيب الطريقة الصوفية القظفية. ومن له أدنى ذوق أو صحبة أو محبة لدى الصوفية، يعرف أن التصوف والثرثرة والتفاصح والمناكفات والمشاحنات تنتمي إلى خطين متوازيين. ولا يخفى على من له أدنى بصيرة أن التربية الصوفية تخلف لدى الإنسان ميلا إلى الخلوة وإنكار الذات والصبر على الأذية، وغيرها من المثل التي تقود بدون شك إلى الاقتصاد اللغوي. وما أحوج ببغاوات شبكات التواصل الاجتماعي الذين لا يعرفون "إلقاء البال للكلام" قبل "القائه على عواهنه"، إلى القليل من التربية الصوفية، لعل ذلك أن يقلص من "الأربعين خريفا" التي وعد بها من مردوا على تلك الحال.
كيف يساهم الصمت الجمهوري في الهزيمة السياسية والأخلاقية لمعارضي الرئيس؟
في المجال السياسي، هزم الجمع منذ أربع سنوات ونتوقع له هزيمة مدوية في الاستحقاق الرئاسي القادم. وتماما كما ركب الرئيس طائرته وتواصل مع السكان مباشرة بخطاب جمهوري وتعاطى بصمت جمهوري مع ثرثرة اللوبيات السياسية المسيئة و المصفقة معا، سيواصل خيار التسامي حتى تصل القافلة إلى وجهتها تاركة الكلاب تنبح.
لكن الناظر البصير لن يخطئ مستوى الهبوط والفجور الخطابي عند جزء كبير من معارضي الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، وهو سقوط أخلاقي ينمو تصاعديا كلما اقتربنا من لحظة الحسم الوشيكة في رئاسيات 2024. وفي تحليلي الخاص أن السبب الأول وراء تصاعد حدة الفجور في القول والنزوع إلى الإساءات الشخصية وتلفيق الاتهامات في حق رئيس الجمهورية، إنما هو انتصار "الصمت الجمهوري"، وخيار التسامي والتحليق بعيدا عن مجال الجاذبية الخاص بالعالم السفلي لهؤلاء الذين يزعمون أنفسهم دعاة إصلاح، بألسنة فاجرة تفتقر إلى البدائل والمقترحات الوطنية العملية والإيجابية.