مهاجران في رحلة عبر الزمن يناطحان موج الظلمات إلى ما وراء البحار بل ما وراء الدنيا حيث يسود قانون الغاب ويداس على كرامة ما يسمى بالبشر!! مهاجران وليس في حقائبهما سوى ذكريات مريرة لوطن تنفسا فيه هواء الحرية الطلق سنين خوالي كادت أن تنسى بعد عشر سنوات كسني يوسف أو أشد من العذاب والتنكيل والنسيان،
مغتربان في غربة لا كالغربة، وهجرة تحكي قصة من الواقع المعاش لا الدراما الحزينة الخيالية بدأت عندما قررت جماعة ما من بني جلدتهما تناسيهما إلى الأبد وطيهما في دهاليز الزمن إلى إشعار آخر.
مهاجران فقدا الأحبة وابتعدا عن الديار وودّعا حنين الأم ودموع الشقيقات ومداعبة الأبناء ومعاشرة الزوجات، واعتزلا مجالس الأدب والشاي والطرب، وهاجرا غير مودعين إلى غيبات الجب وغياهيب السجون وصراخ المعذبين وقرع السلاسل، ومقابلة الكلاب البشرية .
مهاجران من هذا الوطن يعيشان حيث تداس البشرية دوسا وتقطع كرامتها وتستأصل من الجذور، أما أحد المهاجريْن فهو مهندس معلوماتية لم تجبره البطالة إلى الهجرة، لا أبدا..!! بل لهجرته قصة ولترحيله حكاية..
يتذكر هذا المهاجر قصة الترحيل القسرية التي بدأت في أحد مساءات نوفمبر 2001 عندما حل بالباب مفوض من الشرطة بعد صلاة العشاء ودون أن يؤذن له اقتحم المنزل فتخطفه إلى إدارة أمن الدولة. آه لو كان يدرك أن رجال الأمن يكيدون كيدا وأن ثمنه قد قبض قبل أيام وأنه يودع رغما عنه من يحن إليهم وينام في حضنهم قرير العين في رحلة ستحرم حتى مقلتيه من نظرة وداع إلى ديار الوطن وهي تختفي في الغيوم، لقد عصبت عيناه ورحل غدرا بحقيبة ملؤها خيبة الأمل في وطن خدمه ردحا من الزمن وعلّم فيه أميره ورعيته على حد سواء.
رحل هذا المهاجر لتشتريه قافلة بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين ولكن صاحبنا لم تستلمه امرأة العزيز ولا ينتظر من يكرم مثواه بل تخطفته أيادي الغدر إلى قاعدة باغرام الأمريكية التي قضى فيها أسابيع من التنكيل والتجويع والألم والضرب، الآن بدأ المهاجر يفهم أنه غادر حياة البشر إلى حيوانات أخرى تعادي الإنسان بطبعه، فالبشر هو العدو الأول قبل أي شيء آخر لا يستحقون هنا العيش "سنرحلهم إلى غابة أخرى أشد هتكا بالإنسان، تعسا لهذا البشر يؤلمني جدا أن أراه يضحك وهو لا يستحق الضحك موعدنا هناك في غابة اغونتنامو!!" قالها الجلاد وهو يمسك بناصية المهاجر..!!
وحل المهاجر هنالك في هذه الغابة لا يرى من الدنيا إلا قضبانا صدئة أو وجوها عابسة شريرة لم تعرف البسمة طريقها إلى شفاههم الجهنمية.
يتذكر هذا المهاجر وهو يركل في قيده ويجلس في عنبره المظلم قصة والدة قضت عشر سنوات متتالية تحن إلى ولدها قبل أن تبيض عيناها من الحزن وهي تقول "يا أسفي على فلذة كبدي محمدو" وودعت هذه الدنيا دون أن تكتحل عيناها بابنها أو تجد قلبا رحيما في تلك الأرض التي عهدها المهاجر أرضا رحيمة. وما يدريك أيها المهاجر أن الأرض قد تغيرت والدنيا قد اكفهر وجهها وأننا في زمان عدمنا المروءة غداة إعدام إنسانيتكم القديمة.. وبكى المهاجر وأجهش بالبكاء وهو يتذكر وطنا نسيه منذ أن باعه وحول حياته إلى ليالي كلها حالكة، وطنا جازاه جزاء سنمار فهو الذي علم كباره وصغاره فجوزي بهذا المصير، إنه مهاجر يصرخ وينادي مع الشاعر الخليل النحوي:
وطني أين من بنيك نسيم** وهواء طلق نقي زكيُ
أين أفياؤك الظليلة منا** أين ماء عذب زلال شهيُ
أما ثاني المهاجرين فهو رجل من هذا الوطن كان يمارس التجارة بين دبي وباكستان وشاءت الأقدار أن تعترضه عصابة السطو في كراتشي بباكستان يوم 25 يونيو 2002 لتتخطفه إلى باغرام المرحلة البرزخية التي يجرد فيها المرء من بشريته، ويتم فيها فسخ عمامة الإنسان ويخضع لكل أنواع التنكيل يأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ في اغونتنامو التي استقر بها سنين علم بطرق ما أن زوجة له في أدغال الهند قد أنجبت له ابنا فتزداد المعاناة عندما يعلم أن الوحوش يتمتعون بأن يفرقوا بين المرء وزوجه وولده، هي آلام متزايدة مع آلام جسدية فلا هذه الوحوش ستستمع إلى صيحاته وأناته بل تتلذذ كلما سمعت صرخة إنسان أو مرض مغترب، ويزعجها أن ترى هذا البشر ينتزع بسمات من بين شفاههم، ولا أبناء الوطن التفتوا ولو مرة إلى حاله فهو في هذا المصير حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، إنه مهاجر يتألم قلبه ويقشعر كلما سمع من أحاديث الركبان أن ابنا له في الهند يصرخ كل مرة "أريد أبي أحمد" فيتساءل المهاجر حيرانا مع الحطيئة:
ماذَا تقول لأِفْراخٍ بذي مَرَخٍ *** حمرِ الحواصل لا ماءٌ ولا شجرُ
غَيَّبْتَ كَاسِبَهُمْ في قَعْرِ مُظْلِمَة *** فاغْفِرْ عَلَيْكَ سلامُ اللّه ياعُمَرُ
هذان المهاجران ينتظران وطنا يسأل عنهما، ينتظران قوما في قلوبهم بقية مروءة يقولون لقد فرطنا فيكما، ينتظران حكومة تنتزعهما من عصابة الأشرار وتقول : يا حسرتا على ما فرطنا فيكما، وتعوض لهما الخسائر المادية التي لحقت بهما، ينتظران ليلة يتم جمع شملهما بأهليهما ويتناسان هذا العذاب الأليم ويتنفسان هواء الحرية، إنهما ينتظران ليالي مقمرة تهب فيها نسائم الخريف على شواطئ انواكشوط فهل من قلوب رحيمة تتذكرهما وتلتفت إليهما ولو لحظة وتمسح ما تبقى من دموع تقاطرت خلال إحدى عشرة سنة من المعاناة ؟؟