تصحو البلاد في كل يوم على وقع تطورات جديدة و تنامي غير مسبوق للتسويق "الغرضي" تارة و "الموضوعي" تارة أخرى لعرائض "مطلبية" باسم الشرائح العمالية مرة وتحت عنوان الدواعي الحقوقية أحيانا أو هما معا في استثناءات الازدواجية المفتعلة التي تشكل سمة مبتذلة من سمات التعاطي السياسي و الحقوقي
مع هذه القضايا و كأنه في بعض الأوجه "الحق" الذي يراد به "باطل"، ما يؤثر مباشرة في حركة التنمية الراكدة و يترك بالنتيجة بصمته الغائرة على المشهد السياسي العام فيزاد اضطرابا و تناقضا و إمعانا في الاصطفافية المعاندة والموقفية المرتجلة و الخطابية المبتذلة لجر شياطين الأحرف من ذيولها.
أهو تأثير العولمة الطافحة من حولنا؟ أم هي الصعوبة البالغة في حصول أدنى حد لفهم متطلبات المرحلة الغائبة خطورتها عن عقول النخبة المخدرة بإكسير النرجسية و مفهوم "أنا و من بعدي الطوفان"؛ صعوبة تطوق البلد فتشله عن خلع أثواب الجمود و تعجزه هربا عن الانفتاح على ضروريتي العصر من "جرأة" في مواجهة المعضلات و حيثياتها الجديدة و من "إقدام دون تردد على اتخاذ الحلول المواتية؟
في بحر الأسابيع القليلة الماضية كان حراك الحمالين في "ميناء الصداقة" بنواكشوط من أجل الحصول على جملة من الحقوق الضائعة التي ما كان لها، لو أنصف الدهر و صفت الضمائر، أن تغيب أبدا عن أذهان ممثلي كل سلطات الدولة المتواجدة في شتى أجنحة حقل الميناء، و أصحاب المصالح الكبرى من رجال أعمال مستوردين و تجار و موزعين، و من ممثلين عن مكاتب اكتتاب العمال و تسديد رواتبهم، و النقابات و الروابط التي تندرج مهامها النضالية في الإطار العام للدفاع عن حقوق الشغيلة و مواكبة تحسين ظروفها.
أهي في واقع الأمر رواسب و مخلفات الظلم و الغبن اللذين عرفتهما البلاد و أصل لهما في العقلية العامة و مسلكياتها ناموس خاطئ وجد منذ أمد ليس بالقريب، أم هي بعض أوجه سلبيات روافد الرأسمالية، أو هما معا، إذ لا اختلاف على وجوب كشف جريرة الحيف و محاربتها مهما تعددت أوجهها و أيا كان الاختلاف حول من تقع عليه.
و لا شك أنه على الرغم من تلاحق التطورات السريعة و النوعية، التي حصلت ما بين حراكي "الحمالين" في العاصمة نواكشوط و "الجرنالية" بمدينة "ازويرات" المعدنية في ولاية تيرس زمور شمال البلاد، و مهما كانا مندرجين تحت طائلة "مطالب حقوقية عمالية"، فإن التباين كان كبيرا بينهما من حيث الشكل و من حيث المنهجية.
فبينما طبع الحراك الأول بالسلمية النسبية و البعد عن الشطط و الانحراف إلى التعدي على الممتلكات المدنية و العمومية على الرغم من ما حصل من الاحتكاك و بعض التصادم مع قوات مكافحة الشغب و الذين تسببا في سقوط جرحى، فقد اتسم الثاني بالعنف و التخريب الذي امتد إلى حد إشعال النار في أرشيف بعض مرافق الإدارة العمومية و تدمير الممتلكات العامة التي منها محطة الإذاعة الجهوية لإخراس صوتها و النهب الذي طال التجهيزات و المعدات الفنية و المكتبية.
أي درس يجب إذا استخلاصه من تطور هذه التظاهرات الاحتجاجية بهذا الشكل الغير مسبوق وما تكشف عنه من إنذار بأن القادم قد يكون أسوأ؟
و أية حلول دائمة و بأي منطق يمكن التوصل إليها فتضمن الحقوق لأهلها و للدولة هيبتها التي لا بد من تجسيدها على أرض الواقع ضمانا لكيان البلد في بعديه الزمني و المكاني المترابطين، إذ يجب أن تكون التسويات في كل أوجهها عميقة و جريئة تطبعها عفوية القانون و صرامته إلى غاية وضع الأمور في نصابها و الرفع من مستوى التعاطي مع القضايا بـ"الجرأة" و "الإقدام" المطلوبين في الوقت المناسب مع الأخذ مطلقا في الحسبان، و من فوق الحسابات السياسية المشوبة بالذاتية و المجاملة و الكانتونية، كل عوامل العدالة و الحياد و التجرد.
صحيح أن الحقوق لا تضيع إذا كان وراءها مطالب و أن إحقاقها مقصد شرعي و واجب فوق كل اعتبار؛ و لكن صحيح أيضا أن المطالبة بها لا تجيز في المقابل و بأي منطق كان إضاعة حقوق مهما كان صاحبها جائرا فبالأحرى أن تكون هذه الحقوق "حقوق أمة" بكاملها. و إن الإقدام على مثل ذلك أمر يجعل من المستحيل التغاضي عن مرتكبيه و الامتناع مطلقا عن المجاملة بشأن مساءلته أيا كان و مهما كان الذي يمكن أن يترتب عن ذلك من تداعيات. كما لا يمكن أيضا لذلك و تحت أي عنوان أن يكون مطية يعتلي صهوتها من يريد تحقيق مآرب ضيقة و يكسب نجاحات آنية.
و إذا كان لا بد لأي طرف كان من اتخاذ موقف إيجابي من خلال قراءة متأنية و تأويل مجرد رصين و برؤية ثاقبة ترنو إلى كل ما فيه مصلحة البلد و أهله، فيجب عليه أن يوازن ما بين الأمور و يضع الحدث في نصابه و المعادلة بدقائقها في حيزها حتى يكون - بدون أن يخشى من الوقوع في ازدواجية التملق - معا في صف العدالة التي هي الهدف الأسمى، و كيان الدولة التي هي للجميع يتفيأ الكل ظلالها و تحميه في حضنها المكين؛ و لا تناقض في ذلك إذ الديمقراطيات النموذجية الناجحة في العالم من حولنا هي التي تأسست و انبنت على مثل هذا التوجه.
و هل في العالم كله بلد يشبه الهند، أكبر هذه الديمقراطيات، من حيث عدد السكان الذي يفوق المليار نسمة و من حيث تعدد الديانات "المتنافرة" في المعتقدات المتأرجحة ما بين الدين و الفلسفة التأملية و الشرائع المتباينة و مناهج الحكمة و الطقوس و الشعائر و العبادات؟ و هل منها أكثر أعراقا و طبقات و ألوانا و لغات و عادات و تقاليد؟. و مع ذلك فقد تحققت و ترسخت في هذا البلد "معجزة الانسجام" ما بين مكونات فسيفسائه العجيبة و قبول الآخر في ظل "عدالة الدولة" التي يتساوى في فنائها الكل، يأخذ حقه و يؤدي واجبه.
و هل الصين، بمليارها و الثلاث مائة ملايين من البشر و الأكثر من خمسين قومية تنتشر في كل أرجائها بلغاتها المختلفة و معتقداتها المتباينة و عاداتها المتنوعة، إلا تنمو في هدوء و استقرار و تشق طريقها الحافل بالإنجازات في ظل ما اختارته من نهج العدالة و المساواة و الانصراف عن كل ما سواه إلى العلم و التكنولوجيا و السعي بكل ذلك إلى تبوء المكانة التي تليق بها في عالم ليس للضعيف فيه إلا فتات الفتات إن ظل موجودا و لم تطحنه "نواقص الوعي المنجد".
و هل غيرهما إلا الكثير اختار، في عصر ذلل إلى ذلك الصعاب، فوضع العدل هدفا نصب الأعين و خلق أجواء من الأمن و الاستقرار و فتح الأبواب واسعة أمام عوامل و روافد الرفاه و الانسجام و الاستقرار.
لا بد للدولة كيانا أن تسعى بكل هيئاتها التشريعية و القانونية و الحقوقية و كذلك كل الأحزاب و التيارات السياسية و هيئات المجتمع المدني إلى أن تستمد مجتمعة، كل بآلياته الذاتية، من الأحداث التي تحصل من حولهم في البلد و خارجه قوة القراءة و الاستنباط و دقة التحليل و استخلاص العبر و الاتزان و الحياد في تقديم الحلول الناجعة التي تؤطر للهدوء و تمنح فرص استشراف المستقبل المفعم بالأمل للأجيال الحاضرة و المقبلة.
و ليس إفشاء العدل بين الناس بالأمر الصعب إذا ما انتبهت النخب و وعت و طوقت ما هو محدق بها من مخاطر تهدد بتبديد أحلامها و كسر طموحاتها في المشاركة بقيادة و توجيه البلد إلى بر الأمان و وافر التقدم الازدهار.