يأتي الإنسان لهذه الدنيا طفلا بريئا، و صفحة بيضاء، لكنه يأتي بسمع و بصر و فؤاد، و من خلال ما يرى و يسمع و يشعر به، تتكون أفكاره و آراؤه، و تتشكل نظرته للحياة، و من البديهي أن يكون أول ما يؤثر على أفكاره محيطه، (والديه، أصدقاؤه، أهله، معلمه،...)، لكن حينما يحل عامل آخر محل هؤلاء جميعا، تقريبا، فلا شك أن ذلك العامل سيكون هو العامل الرئيسي الذي من خلاله تتشكل أفكار أولادنا. فهل تعرفون أفكار أولادكم؟
٢٤ ساعة في اليوم، لا شيئ فيها يلازم إنسان اليوم مثل الهاتف، فإن سمح الهاتف لصاحبه بالنوم ٤ساعات، فإن لا شك سيسرق أو ينتزع بقية وقته كله.
لن ينتبه الأبوان للأبناء في مرحلة الطفولة الصغرى و المتوسطة، بالقدر الذي يسمح لهم بتربيتهم على النحو المطلوب، و بالتالي في أحسن الأحوال يحيلونهم إلى غيرهم، من مربية أطفال أو روضة أطفال أو مدرسة، و لا وقت للمتابعة، لأن الآباء مشغولون بالهواتف.
أما مرحلتين الطفولة المتأخرة و المراهقة، ففيهما يتم إجترار ما تعلم الطفل سابقا، وفي نفس الوقت تعتبر مرحلة المراهقة مرحلة طموح و نشاط و تطلع، و هي التحدي الأكبر، حيث تبدأ الأفكار في التشكل بشكل أقوى و يبدأ المراهق في السؤال عن كل شيئ، ليأخذ انطباعاته عن كل ما يدور حوله.
يجد المراهق أمامه الهاتف، و يبدأ في الولوج إلى وسائل التواصل الاجتماعي بسرعة، ليجد فيها ضالته، و يبدأ يسأل عن كل شيئ، حيث لا رقيب و لا رادع، فيتلاقى طموحه اللامحدود مع المحتوى اللامحدود في الشبكة العنكبوتية، و يتلاقى تطلعه للرجولة و الثقة بالنفس مع العالم الإفتراضي الذي يختار فيه كل فرد شخصيته الإفتراضية كيف يشاء.
لا وقت لدى الوالدين لمحاورة مراهق غريب الأطوار، و ليست هنالك منظومة تربوية محكمة في المدرسة و حتى المحظرة، لتحتويه بالطريقة المناسبة، أما الأصدقاء فسيختارهم و يختاروه بناء على الهوايات المشتركة، و لا هواية أكثر تشاركا من التواصل الإجتماعي.
إذن يبدأ المراهق في صناعة شخصيته، و بناء فكر جدبد، بعيدا عن الاهل و الحاضنة التربوية، و يجد هنالك من الأفكار الغريبة، و الهوايات المتشعبة و المحتوايات الشاردة، و الصداقات الافتراضية، ما يجعله يسبح في عالمه الإفتراضي بشكل غير محدود.
أغلب وقته مع الهاتف، يتابع العالم في شاشته الصغيرة، و يكتب عليها أفكاره و إنطباعاته بكل حرية، منزويا عن أجواء الأهل و الأقرباء الذين ما يزالون يعتبرونه طفلا صغيرا، لا يستحق أي ثقة، تلك الثقة التي هي محل شغفه الذي يبحث عنه، و قد وجده في عالمه الجديد.
ربما يكون المراهق أو المراهقة، يستمد أفكاره من مجتمع في أقصى القارة الأمريكية أو الآسوية.
كل العلاقات مفتوحة له، و كل الخيارات، يرى عادات المجتمعات الغربية، بل يعيشها واقعا، و يتفاعل معها، و يجد نفسه يتأثر بها، يدمن ألعابا لا تنتمي لمحيطه الواقعي، و يميل لسماع أغاني مجتمعات لم يرها إلا على الشاشة، و يألف سماع لهجات و عبارات و فن و قصص، لا تنتمي لثقافته المحلية، و يناقش أناسا قد لا يربطه بهم سوى أنهم بشر، لا الدين مشترك بينهم، و لا اللغة، فالعالم الإفتراضي يسهل التواصل بين لغتين مختلفتين من خلال أدوات الترجمة الكتابية و الصوتية.
إذن من ذلك المنطلق يبدأ الاولاد بتشكيل أفكارهم التي لا نعلم عنها شيئا، و تبدأ الهوة تتسع بين الآباء و الأولاد بسرعة، و بين المجتمع و أبنائه، فليس هنالك ما يجمعه سوى العلاقة الأسرية، و التي من خلالها يتوهم الآباء أنهم يعرفون أفكار أولادهم.
كيف تعرفون أفكارا لم تساهموا في صناعتها، و لم تتابعوا لحظات تشكلها، إنها أفكار تشكلت في وسط خارج الحيز الأسري و المدرسي و المحظري.
أفكار صنعتها العولمة، من خلال هاتف صغير كان هو الوسيط لسماع و رؤية المسموعات و المرئيات التي هي المادة الخام لتلك الأفكار.
الكثير من الأسر لا يعرفون أفكار اولادهم، و لا يستطيعون تخمين تصرفاتهم و لا قراءة ما يطمحون له.
لقد أصبح هنالك إنفصام كبير بين الأبناء و الآباء، و أصبح الجيل يتشكل بسرعة، دون أن يأخذ الوقت الكافي الذي كان الجيل يتشكل عليه.
و التحدي الأقوى في الغموض و الانفصام الذي يشوب العلاقة بين الآباء و الأولاد في الوقت الحالي، هو غياب الصورة الحقيقة لنظرة الأبناء حول دينهم و عقيدتهم و تعاليم شرعهم.
ماذا لو كان الأولاد يفكرون بطريقة مختلفة تماما عن آبائهم، حول تعاليم دينهم؟
أليست الغلبة اليوم لأعداء الامة الإسلامية و هم حريصون على قرصنة أفكار أولادنا من خلال تلك الوسائط الإجتماعية التي أصبحت تأخذ جل أوقاتهم و أوقاتنا؟
علينا أن نعرف أفكار أبناء و نحاول غربلتها من جديد لنوجههم، قبل فوات الأوان.
و لا بد من التواصل مع الأولاد و نقاشهم، و منحهم من أوقاتنا ما يكفي للوقوف على حقيقة افكارهم، و للمشاركة في صياغة تلك الأفكار بطريقة تشاركية، يجد فيها المراهق ذاته، و تمنح له فيها ثقته، من خلال تضافر الجهود الأسرية و المجتمعية و الوطنية، حتى نتمكن من تحصين ابنائنا الذين هم رجال المستقبل.