الحياة والموت لغزان محيران، يستعصي على العقل فهم كنههما وعلى العلم اكتشاف حقيقتهما، وقد حير الموت الإنسان في عصر بدائيته فبكى وانتحب ونظم القصائد، وعقد مجالس العزاء، وشيد المقابر، ونسج الأساطير، وما زال يحيره في عصر طغيانه وتمرده على الله فيبكي وينتحب وينظم القصائد ويعقد مجالس العزاء..
وما زال الإنسان يستقبل الحياة كما يستقبل الموت مستسلما راضخا رغم إرادته ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة يفرح بلقاء "المولود الجديد" أو الكائن القادم من عالم الغيب، ويحزن لفراق " الميت" أو الكائن الذاهب إلى عالم الغيب. مع أن القادم المفروح به سينافسه على كل شيء، و الذاهب المأسوف عليه سيترك له كل شيء. فلماذا نفرح بمن ينافسنا ونحزن على من يترك لنا كل شيء حتى هاتفه الشخصي ومعجون أسنانه . ؟
يفرح الإنسان بولده لا لأنه امتداد له وأنه يمثل عزاءه في الخلود، بل لأنه سيشاركه تجربة الحياة ويشاطره ما فيها من مشاعر وأحاسيس وذكريات ويغني معه ويبكي، ويصلي ويفسد في الأرض، ويعيد أمام عينيه التجربة ذاتها التي خاضها أول مولود على الأرض والتي سيخوضها آخر مولود عليها، كما لو كان ممثلا عبقريا، فرحلة العمر هي ذاتها لم تتغير ومحطاته لم تتبدل .. رضاع يتبعه فطام ... وطفولة تتلوها مراهقة... وشباب تعقبه شيخوخة .. ثم يأتي الموت وتتلاشى الحياة، وتتوقف الحركة، ويغيب الجسد، وتنهار الأحلام المشتركة. ليدخل الميت تجربة جديدة والأموات لا يحكون تجاربهم حتى تكون معروفة؛ لأن الموت لا يشترك فيه اثنان فكل إنسان يموت وحيدا دون أن يشعر بسواه ولو مات معه جميع سكان الأرض في لحظة واحدة كل مرئ بما كسب رهين أما الحياة فنستطيع أن نحياها معا ونشترك فيها .
ولما كان الموت لا يترك للحي أثرا سوى ذكرياتها، في حين يطمس خبراته وتحاربه وثقافته وأخلاقه كان الكتاب حريصين على تدوين ذكرياتهم وتجاربهم وأحلامهم حتى لا تفنى بل إن أعتى الملحدين كتب سيرته الذاتية كما لو كان يؤمن بالخلود أو يبحث عنه : " إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم "
في بعض الأحيان أتصور أن الحياة أكثر غرابة من الموت؛ لأن الحياة تقتضي منك أن تجيب عن أسئلة حائرة كيف أعيش الحياة وكيف أتفادى الموت، كيف اعرف الحق وانشر الخير وانشد الجمال؟، أما الموت فلا يتطلب منك أن تعرف كيف تعيش الموت ولا كيف تتفادى الحياة من جديد ؟ كل مولود جديد إنما يأتي إلى الدنيا ليخلف والديه حتى لا تخلو هذه الأرض ممن يعمرها: علماء يفكرون وعباد يبتهلون، وأشرار يفسدون، ولصوص يسرقون، وفقراء يكدحون، وأغنياء يبذرون لتتكرر مسرحية الحياة والموت ... جيل بأكمله يخرج للوجود من العدم يحتل المشهد ويسرق الأضواء من الجيل الذي تعب في عمارة الأرض ثم يختفي الجيل القديم تاركا المشهد لجيل جديد يكرر الأخطاء ذاتها يقتل ويظلم ويسرق . ثم يختفي هذا الجيل ويأتي جيل جديد وهكذا دواليك..
إن كل دمعة نريقها على ميت، وحرف نكتبه في تأبينه، ومجلس عزاء نقيمه هو بكاء على أنفسنا وتأبين لها وعزاء... ما أروع البكاء عندما يكون فنا يناجي ألغاز الوجود ... وما اقساه عندما يتحول إلى نحيب على فراق الأحبة...