إلى المعارضة: لا تتسرعوا في رفض "الميثاق الجمهوري" / محمد الأمين الفاضل

سارعت بعض التشكيلات والأحزاب المعارضة إلى رفض الوثيقة المقترحة من حزبي اتحاد قوى التقدم والتكتل، وكان من أهم أسباب الرفض أن الوثيقة جاءت لخدمة النظام القائم، وأن الحزبين اللذين تقدما بها لا يمثلان المعارضة الموريتانية، خاصة بعد أن فشلا في الحصول على أي تمثيل في البرلمان الموريتاني في الانتخابات الأخيرة.
لا يمكننا أن ننفي وجاهة بعض الأسباب التي تقدم بها بعض المعارضين، ويمكن أن نضيف لها أخطاءً أخرى ظهرت في صياغة الوثيقة، فمن الواضح من ترتيب المحاور السبعة عشر في ملحق الاتفاق السياسي، أن الحزبين اللذين تقدما بالمقترح يعانيان من خلل كبير في ترتيب المشاكل والتحديات التي تواجهها موريتانيا اليوم. يمكن القول في هذا الإطار إنهما رتبا المشاكل والتحديات في الوثيقة وفق رؤيتهم لترتيب المشاكل والتحديات التي كانت تواجهها موريتانيا في عقد التسعينيات من القرن الماضي.
لقد بدأت المحاور في الملحق السياسي للوثيقة بضرورة إصلاح النظام الانتخابي، وقد يكون ذلك طبيعيا في وثيقة تمت صياغتها من طرف أحزاب سياسية، ويتأكد الأمر أكثر إذا كانت تلك الأحزاب لم تحظ بنتائج معتبرة في الانتخابات الأخيرة، ثم جاء المحور الثاني الذي تم تخصيصه لملفات حقوق الإنسان والمظالم العالقة (الإرث الإنساني). لو كنا نعيش الآن في ظل حكم الرئيس معاوية، لكان من المقبول أن يخصص المحور الثاني في هذه الوثيقة لذلك الملف.
المحور الثالث تم تخصيصه للغات الوطنية، والاعتراف بأنها قابلة لأن تكون لغات رسمية، ويبدو أنه قد فات من تولى ترتيب المحاور في الوثيقة  أن مشاورات إصلاح التعليم قد أوصت بتدريس اللغات الوطنية، وأن الجمعية الوطنية أصبحت توفر الترجمة من وإلى كل اللغات الوطنية، وأنها تتيح لكل المواطنين من خلال قناة البرلمانية الاستماع لكل ما يجري في البرلمان من نقاشات بلغاتهم الأم، ولكن المشكلة المطروحة الآن هي أن بعض النواب الناطقين باللغات الوطنية يرفضون استخدام لغاتهم الأم ويصرون على التحدث بلغة أجنبية داخل البرلمان. 
لم تتحدث الوثيقة، ولو بكلمة واحدة، عن اللغة العربية (اللغة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية)، ولا عن ما تتعرض له هذه اللغة من مضايقة في الإدارة والتعليم من خلال لغة أجنبية تتراجع مكانتها عالميا، وبدأ جيراننا في بعض الدول الإفريقية السوداء يفكرون في التخلي عنها، وإبدالها بأي لغة أخرى قد تصادفهم على قارعة الطريق. في الحقيقة كان تجاهل الوثيقة للغة الرسمية للبلد صادما ومستفزا، ولكن مثل ذلك لم يكن مستغربا من معارضة عرفناها منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي وحتى اليوم تنتقد الأنظمة المتعاقبة على كل كبيرة وصغيرة، ولا تستثني من انتقادها للأنظمة إلا تقصير تلك الأنظمة في تفعيل المادة السادسة من الدستور الموريتاني.
نعم، لقد بدأت الوثيقة بمشاكل وتحديات لا خلاف على أنها ما تزال مطروحة، ولكنها لم تعد كما كانت في عقد التسعينيات من القرن الماضي، لقد بدأت الوثيقة بمشاكل وتحديات أقل إلحاحا، وفي المقابل فقد أخرت مشاكل وتحديات أصبحت المطالبة اليوم بمواجهتها أكثر إلحاحا وأكثر أولوية عند المواطنين من أي مشاكل وتحديات أخرى، ومن تلك المشاكل الملحة مشكلة الفساد الذي لم يذكر بالاسم في الوثيقة، والذي خُصص له المحور الثامن، مع أنه كان يجب أن يوضع في المحور الأول أو الثاني في أسوأ الحالات.
كما لوحظ أيضا تأخير الحديث عن البطالة والهجرة والمخدرات، أي عن مشاكل الشباب، فجاءت مشاكل الشباب في المحور رقم 14، وهو ما يعكس أيضا خللا كبيرا في ترتيب المشاكل والتحديات التي تواجهها بلادنا اليوم.
لم يأت الحديث بشكل واضح في الوثيقة عن الإصلاح الإداري: تقريب خدمات الإدارة من المواطن، تعيين الكفاءات؛ الأخذ بمبدأ المكافأة والعقوبة في التعامل مع الموظفين.. إلخ، ولا شك أن الإصلاح الإداري يعد اليوم من أهم المطالب المطروحة.
نعم هناك خلل في الوثيقة في ترتيب المشاكل والتحديات التي تواجهها بلادنا، وهناك عدم 
"تحيين" لتلك المشاكل والتحديات، وهناك أيضا خجل ملاحظ في الوثيقة من ذكر الفساد بالاسم، ومن إعطاء مشاكل وتحديات أخرى مساحة مناسبة لها في هذه الوثيقة.
كل ذلك صحيح، ولكن الصحيح أيضا هو أن كل المشاكل والتحديات قد ذكرت بشكل أو بآخر في الوثيقة، وهو ما سيتيح للجميع مناقشتها في الورشات التي بوبت عليها الوثيقة، والتي ستشمل 17 محورا تم إدراجها في ملحق الاتفاق السياسي في الوثيقة.
تبقى هناك نقطة أخرى لابد من الإشارة إليها، وهي أن الحزبين اللذين تقدما بمقترح الوثيقة لا يمتلكان اليوم الشرعية الانتخابية للحديث باسم المعارضة، حتى وإن كانا يمتلكان "الشرعية التاريخية" للحديث باسمها. صحيح أنهما لا يمتلكان الشرعية الانتخابية للحديث باسم المعارضة، ولكن المهم الآن هو طرح السؤال الأهم: هل يمكن لهذه الوثيقة وبغض النظر عن الجهة التي أصدرتها أن تكون مسودة لنقاش سياسي معمق بين مختلف الأحزاب السياسية في الأغلبية والمعارضة؟
في اعتقادي الشخصي أن هذه الوثيقة ورغم بعض الأخطاء التي تحدثتُ عنها في بداية هذا المقال، يمكن أن تشكل مسودة لنقاش سياسي واسع، بل ويجب أن تشكل مسودة لذلك النقاش.
من هنا يمكن القول بأن بعض التشكيلات والأحزاب السياسية المعارضة تسرعت في رفض هذه الوثيقة، وهذا الرفض سيكون مرحبا به لدى جهات في الأغلبية لا ترغب في أي حوار مع المعارضة، ولكم أن تلاحظوا أن الترحيب بالوثيقة على مستوى بعض أطراف الأغلبية كان باهتا إن لم أقل منعدما. 
نعم تسرعت بعض الأطراف المعارضة في الإعلان عن رفض هذه الوثيقة، ولتبيان ذلك، فلابد أن نتوقف قليلا مع وضعية المعارضة حاليا، والفرص المتاحة أمامها الآن، وفي المستقبل المنظور.
1 ـ  من الواضح جدا أن المعارضة الموريتانية لا تمتلك اليوم مرشحا توافقيا يمكن أن يحظى بالفوز في الانتخابات الرئاسية القادمة، وليس هناك أي احتمال ـ حتى ولو كان ضعيفا ـ  لوصولها إلى الرئاسة خلال الانتخابات الرئاسية القادمة، حتى وإن افترضنا جدلا أن مرشح المعارضة تمكن من الفوز في الانتخابات الرئاسية القادمة، فالراجح بل المؤكد، أنه سيفشل في التعامل مع التحديات الأمنية المعقدة في المنطقة، ومن الصراع في النفوذ بين القوى العظمى، ومن كبح توسع الحركات والجماعات المسلحة في المنطقة، والراجح أيضا أنه سيكون ضحية لانقلاب عسكري خلال سنته الأولى في الحكم، ففي منطقة كمنطقتنا تعيش موجة من الانقلابات، وتعاني من تحديات أمنية كبيرة، فمن الراجح أن عدوى الانقلابات ستصلها بسرعة كبيرة، إذا ما تولى فيها الرئاسة خلال السنوات الخمس القادمة رئيس مدني لا خبرة له في إدارة الملفات الأمنية في المنطقة، ولا معرفة له بما يدور داخل المؤسسة العسكرية؛
2 ـ لا تقتصر نقاط ضعف المعارضة في الوقت الحالي على أنها غير مؤهلة للوصول إلى الرئاسة في الانتخابات الرئاسية القادمة، بل إن من نقاط ضعفها كذلك أنها غير قادرة على تحريك الشارع، وأنها لا تستطيع فرض الاستجابة لمطالبها من خلال ضغط الشارع وتنظيم الاحتجاجات والمظاهرات التي تستقطب جمهورا معتبرا؛
3 ـ وبما أن المعارضة الموريتانية غير قادرة على الوصول للرئاسة في الانتخابات القادمة، وغير قادرة كذلك على تحريك الشارع لفرض الاستجابة لمطالبها، فإنه في هذه الحالة يكون من الأفضل لها أن تحاول فرض ما يمكن أن تفرضه من مطالب من خلال التفاوض والحوار، وتبقى وثيقة التكتل وقوى التقدم هي أفضل مسودة يمكن اعتمادها لتنظيم حوار موسع بين الأحزاب السياسية، تفرض فيه المعارضة مطالبها، ويتم خلاله الاتفاق على "ميثاق جمهوري" تعمل كل الأطراف على تنفيذ ما جاء في بنوده؛
4 ـ يمكن للمعارضة الموريتانية إن كانت لها رؤية استراتيجية واضحة أن تجعل من السنوات الخمس القادمة فترة انتقالية بين "الديمقراطية العسكرية" إن جازت التسمية، و "الديمقراطية المدنية"، أي فترة لبناء مؤسسات دستورية قوية تهيئ الأرضية لحكم رئيس مدني خالص، وتكون قادرة على حمايته من أي انقلاب  عسكري محتمل، ولن يكون ذلك ممكنا إلا من خلال حوار مع الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني وأغلبيته الداعمة، فالرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني هو الأجدر بقيادة مرحلة انتقالية بين الديمقراطية العسكرية والديمقراطية المدنية، وذلك لخلفيته العسكرية التي تمنحه ثقة المؤسسة العسكرية، ولكونه كذلك رجل حوار وانفتاح على المعارضة، وذلك ما أثبته خلال السنوات الأربع الماضية من حكمه.
لابد من فترة انتقالية بين الديمقراطية العسكرية والديمقراطية المدنية يتم خلالها بناء مؤسسات دستورية قوية من خلال حوار وطني شامل يستفيد من أخطاء الماضي، وبدون تلك الفترة الانتقالية فإن الديمقراطية في بلادنا ستبقى مهددة دائما بانقلاب عسكري جديد. 
5 ـ يمكن للمعارضة الموريتانية أن ترفض المشاركة في صياغة ميثاق جمهوري، ويمكنها أن ترفض أي حوار جديد مع النظام على أساس وثيقة التكتل وقوى التقدم، يمكنها أن ترفض كل ذلك، ولكنها ستدرك مستقبلا أنها أضاعت فرصة ثمينة كان يمكن من خلالها أن تفرض بالحوار والتفاوض الاستجابة لبعض مطالبها، وأن تجعل من السنوات الخمس القادمة مرحلة انتقالية لبناء مؤسسات دستورية قوية من شأنها أن تهيئ الأرضية لحكم مدني خالص.  
بكلمة واحدة على المعارضة الموريتانية أن تتذكر دائما أن ما حققته خلال العقود الماضية، لصالح الديمقراطية الموريتانية، كان نتيجة لحوارات مع الأنظمة المتعاقبة، والنظام الحالي قد يكون هو النظام الأكثر استعدادا للحوار مع المعارضة، ولذلك فعلى المعارضة أن لا تضيع فرصة الحوار معه لتحقيق المزيد من المكاسب للديمقراطية الموريتانية، خاصة وأننا نعيش اليوم في منطقة تتراجع فيها الديمقراطية بسرعة مقلقة، وتنتشر فيها عدوى الانقلابات العسكرية بشكل لافت. 

28. أغسطس 2023 - 13:45

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا