ملاحظات على وثيقة منع العنف ضد النساء والفتيات / خليهن ولد الراجل

altوثيقة "منع العنف ضد النساء والفتيات" التي صدرت أخيرا عن هيئة الأمم المتحدة وحاول البعض الدفاع عنها أو تبريرها، هي في الحقيقة ليست إلا حلقة من حلقات مسلسل التغريب والهيمنة الامبريالية، وهي وثيقة الصلة بإديولوجيا "ما بعد الحداثة" التي تسعى منذ عقود من الزمن إلى إحلال العهر والدعارة والمجون والفوضى الجنسية محل الأديان وحياة الطهر والعفاف!!

وليس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تمت المصادقة عليه سنة 1948 وما تلاه من وثائق أممية (وثيقة مؤتمر السكان والتنمية المنعقد في القاهرة سنة 1994 ووثيقة بيجين سنة 1995) إلا بذورا لهذه الوثيقة التي صدرت هذه الأيام، والتي تعبر بشكل حقيقي عن رؤية فلسفية للحياة مغايرة تماما لمنهج الأديان .. وليست الوثيقة مخالفة لتعاليم الدين الإسلامي فحسب، وإنما هي محاولة لفرض تصورات وقيم "ما بعد الحداثة" التي تتجاهل موروثات الحضارة الإنسانية بكل مكوناتها، وتهدف للقضاء على البقية الباقية من الأخلاق والقيم الإنسانية، وإلى جعل الفوضى الجنسية أساسا حتميا للحياة الإنسانية. وقد تحدث الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله قبل سنين عن هذه الإديولوجيا، وعن أنها تنظر إلى الجنس لا بحسبانه تعبيرا طبيعيا عن رغبة طبيعية؟! وإنما بحسبانه جزءا من فلسفة كونية شاملة، ورؤية للعالم، وتعبير عن إحساس عميق بالغربة، والوحدة والخوف من المجهول! فالإنسان الغربي نتيجة لإحساسه المتنامي بالعدم، يحاول أن يطرح على نفسه أسئلة تخبئ السؤال الكلي والنهائي!! ويذكر الدكتور المسيري مثلا طريفا وهو أن رياضيا قدم إلى المحكمة بتهمة محاولة اغتصاب قاصر، ثم ظهر أنه كان ينام مع ثلاث نساء في اليوم منذ سنين. والآن وبعد هذه المقدمة الطويلة إلى حد ما دعونا نعود إلى الوثيقة لنرى مضمونها، وما تحويه من أفكار ورؤى.

تفكيك الأسرة وتقويض بنيانها:

فحين تعرف الوثيقة في الفقرة(3) العنف ضد المرأة بأنه أي أذى أو معاناة تتعرض له المرأة سواء كان ذلك "على الصعيد الجسدي أو الجنسي أو النفسي، بما في ذلك التهديد بارتكاب أعمال من هذا القبيل". ثم تصنف في الفقرة (9) ضمن "مظاهر العنف ضد المرأة والفتاة عنف العشير"!! وتذكر في الفقرة(22) أن من الثغرات القانونية في دساتير بعض الدول، عدم تجريم "الاغتصاب الزوجي"!!

فالوثيقة حينما تذكر ذلك فإنما تسعى إلى تشجيع ظاهرة النشوز، ومنع الرجل من حقوق زوجية شرعتها له كل الأديان السماواية، بل وكل الأعراف البشرية. وليس معنى ذلك إلا أنه يحق للمرأة أن تمتنع عن معاشرة زوجها متى ما كانت راغبة في ذلك؟! وإذا خالف رغبتها فإنه يعدُّ عدوانيا ومغتصبا تجب معاقبته قانونيا!! وإذا ما تجرأ ولمس جسدها بغير رضا منها فإن ذلك يعد تحرشا جنسيا وعنفا مقيتا لا يقبل بحال!! .. والنتيجة الحتمية لهذا الأمر هو القضاء على الكيان الأسري، وتفكيكه وإفراغه من محتواه .. فكيف تستقيم الأسرة في ظل حرمان الرجل من حقوقه التي شرعتها له كل الأديان السماواية، بل وكل الأعراف البشرية؟!! وكيف تستقيم الأسرة إذا كان الرجل منزوع الصلاحية ومحروم من القوامة التي هي دور وظيفي فطري متكامل مع الأدوار الوظيفية الفطرية للمرأة والتي تتماشى مع طبيعة خلقتها ومكوناتها البيولوجية؟!

انتكاس للفطرة وتقنين للفوضى الجنسية:

وحين تتحدث الفقرة(24) عن وجوب حماية حرية "الحقوق الجنسية والإنجابية للنساء"، وتدعو في توصياتها إلى ضرورة "التصدي للقوالب النمطية الجنسانية".  فإنما يعني ذلك الدعوة إلى الفوضى الجنسية وفتح الطريق على مصراعيه للإباحيّة الجنسيّة، وإطلاق الحرية التامة للحمل خارج إطار الزواج والإجهاض وزواج المثليين، وهدم الأسرة بأركانها الفطرية.. فـ"الحرية الجنسية"، كلمة عامة يدخل تحتها الممارسة الجنسية المشروعة والممارسة الجنسية الغير المشروعة، ويدخل تحتها أيضا الممارسة الجنسية مع المثيل! أما تعبير "تغيير القوالب النمطية الجنسانية"! فلا يفهم منه سوى انتكاس الفطرة، وتغيير قوالب الجنس المشروعة والمتداولة بقوالب أخرى غير تقليدية!! و"حرية الإنجاب" هي الأخرى كلمة عامة يدخل تحتها الإنجاب الشرعي والإنجاب غير الشرعي، كما يدخل تحتها حق تحديد النسل وحق الإجهاض. وعليه فالنتيجة الحتمية لهذه المقدمات إنما هي انتكاس في الفطرة وتدمير الحياة البشرية بتقنين الفوضى الجنسية والإنجابية، ونشرها على أوسع نطاق، وفي كل الميادين، وحماية أصحابها بنظم وقوانين!!

وحين تتحدث الفقرة(25) عن حقوق المرأة "في الزوج والطلاق والميراث..". إنما تعزز بذلك منهج "إديولوجية المرأة الجديدة" الداعي إلى قلب حقائق الفطرة، ومخالفة النظام الاجتماعى الذى بدأ منذ نشأة الحياة البشرية على الأرض، وما يزال مستمرا إلى الآن. ومع أننا لا ننكر حق المرأة في اختيار زوجها ابتداء(بشرط أن لا يكون مثيلا، وأن يكون بعلم الولي ورضاه مع تفصيل في ذلك ليس هذا مجال بيانه)، فهو حق كفلته لها شريعة الإسلام، والآثار في ذلك مشهورة معروفة وليس هذا مجال بيانها .. إلا أنها لا تمتلك الحق في تغييره "الطلاق" بحال(وهو أمر محسوم في كل الشرائع السماوية)، وقد تحدث علماء الإسلام عن أن الحكمة من ذلك، هي أن الرجل هو الذي دفع المهر، وسهر على إعالة الأسرة حتى تأسس بنيانها على كاهله، ومن كان كذلك لم يكن سهلا عليه تهديم البناء الأسري إلا لدوافع قاهرة، ثم إن المرأة عاطفية جدا وسريعة التأثر والانفعال، فلو كان الأمر بيدها لأسرعت في إنفاذه الأبسط الأسباب وأتفهها.. على أن الإسلام جعل من حق الزوجة أن تخالع الرجل إذا انعدمت رغبتها فيه، وأن ترفع أمره إلى القضاء إذا تضررت منه.

أما قضية الميراث فمسألة محسومة في كتاب الله، وعدم المساواة فيها بينة حكمته، فإذا كان الرجل هو الذي يتكلف عناء دفع المهر ثم النفقة وتسديد حاجيات البيت، والمرأة لا تطالب بشيء من ذلك حتى ولو كانت غنية فكيف يطالب بالمساواة بينهما في الميراث؟! وهل ذلك من العدل والإنصاف؟! ومما يدخل في انتكاس الفطرة تلك العبارة التي تكررت في الوثيقة، والتي تدعو إلى منع ما تسميه "تشويه الأعضاء التناسلية للإناث"(ختان البنات)، ومع أن المسألة ليست من أصول الإسلام، وليست حتى من فروعه التي وردت فيها نصوص صحيحة أو اتفق عليها علماءه، بل الخلاف قائم بين العلماء هل هي مندوب أو مباح، إلا أنها من الأمور الفطرية التي تعارفت عليها الشعوب، ولم ينكرها إلا الحداثيون الجدد، ثم لماذا لا تتحدث الوثيقة عن "تشويه الأعضاء التناسلية للرجل"(ختان الأولاد) إذا كان حقا هدفها الدفاع عن الإنسان؟! وتحدثت الوثيقة في العديد من فقراتها عن أضرار "الزواج المبكر" ولكنها لم تشر ولو بإيماءة إلى أضرار "السفاح المبكر" مما يدل على أنها غير نزيهة فيما تقول!

مساواة لا تماثل:

تحدثت الوثيقة في عدد من فقراتها عن ضرورة "المساواة بين الجنسين"(انظر الفقرة 9) ثم شرحت ذلك في الفقرة(45) بأن المساواة المطلوبة هي "تقاسم المسؤوليات على قدم المساواة بما في ذلك تربية الأطفال وتنشئتهم والعمل المنزلي ورعاية الأطفال". ونسيت الوثيقة أن تضيف إلى ذلك "وتبادل الأدوار في الحيض والحمل والولادة والإرضاع"!! إن المساواة في الحقوق مسألة محسومة في شريعة الإسلام، فأصل النشأة والمصير وحصول التكريم الإلهي وتلقي الأوامر الشرعية سواء، وحق المشاركة السياسية، والحقوق الاقتصادية (حق التملك، حق البيع والشراء، حق الميراث)، والحقوق الاجتماعية والثقافية (حق اختيار الزوج بالشروط التي ذكرناها، حق التعلم، حق التفكير والتعبير والإبداع) كلها حقوق مكفولة للجنسين على السواء.

أما المساواة في الوظائف التي تقتضيها الطبيعة لبيولوجية لكل من الرجل والمرأة بحيث تتحول المرأة إلى معيل وصاحب القوامة في البيت، ويتحول الرجل إلى عامل منزلي ومربي أطفال فأمر لا يقره الإسلام بحال فضلا عن كونه مناف للفطرة الانسانية. والمسائل التي فرق فيها الإسلام بين الجنسين (الطلاق، الميراث، القوامة، الشهادة)  يعود التفريق فيها إلى طبيعة الفروق لبيولوجية التي تنبني عليها طبيعة الأدوار الحياتية. وقد تحدثنا عن الحكمة من جعل القوامة والطلاق بيد الرجل، وعن قضية الميراث، بقي لنا أن نتحدث عن الحكمة من جعل شهادة المرأة نصف شهادة الرجل. قال العلماء: إن الشروط التي تراعى فيها الشهادة ليست عائدة إلى وصف الذكورة أو الأنوثة؛ وإنما مردها إلى العدالة والضبط، ومدى أهلية الشاهد للشهادة في الواقعة ودرايته بها، ولذلك فإن شهادة المرأة ليست على النصف من شهادة الرجل على الدوام، فقد تتساوى شهادتها مع شهادته، بل قد تفوق شهادتها شهادته في بعض الأمور فتشهد هي ولا يشهد هو، والآية القرآنية التي ورد فيها: )واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان( قد عللها الفقهاء بكون المرأة ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية، ولذا فإن ذاكرتها فيها ضعيفة(أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى)، في حين أرجع بعضهم ذلك إلى طبيعة المرأة وما يعتريها من حالات نفسية قد تؤثر في بعض جوانب الشهادة(الحيض، الحمل، الولادة، الإرضاع).

بقي لنا أن نشير في الختام إلى ملاحظات أخيرة:

أولا: أن الوثيقة رغم خطورتها لم تلق من الاستنكار والإدانة ما يكفي، وخصوصا في هذا البلد، وإن لأستغرب سكوت العلماء والدعاة عنها. ثانيا: لقد تحفظ على مضمون الوثيقة بعض الدول الإسلامية (مصر وتونس وليبيا) ولم يوقعوا عليها، وكان يسع بقية الدول الإسلامية الأخرى ما وسعهم. ثالثا: ليست الملاحظات التي أوردناه وعلقنا عليها هي كل ما في الوثيقة من أخطاء، فثمت أخطاء أخرى كثيرة لم يسمح لنا المقام بذكرها (مثل دعوة الوثيقة بشكل صريح في توصياتها إلى تدريب البنات والأولاد على طرق الممارسة الجنسية).. وربك الهادي وهو الموفق إلى سواء السبيل.  

8. يونيو 2013 - 22:04

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا