نصف قرن من التيه السياسي ! / عبد القادر ولد الصيام

عبدالقادر ولد الصيامعجيب أمر السّاسة حينما يتنكـّـرون لماضيهم و يتجرّأون على نقد التاريخ دون اهتمام بإصلاح الحاضر أو إثبات ما يدّعون، و عجيب أمر رئيس الحزب الحاكم حينما يُطل علينا في المؤتمر الأول لحزبه بأن ميلاد حزبه –الاتحاد من أجل الجمهورية-"جاء (...) على موعد مع القدر بعد قرابة نصف قرن

 من التيه السياسي دشنته الأحادية الحزبية و ما تعنيه من احتكار مقيت للسلطة طيلة عقدين من الزمن مرورا بعقد من الدكتاتورية العسكرية الكالحة " ذلك أن الاتجاه السياسي السائد في البلد منذ الثالث من أغسطس 2005 و الذي لا نزال نعيش مختلف تجلياته و نتائجه- يميل إلى نقد الأنظمة السابقة عموما و نظام العقيد معاوية ولد الطائع بشكل أخص دون أن يُثبت أساطين السياسة اليوم خلو أيديهم مما شاب تلك المرحلة أو – على الأقل- ندمهم على ذلك.

و عندما نقف مع خطاب رئيس الحزب الذي كان يتحدث عن "أهم" حزب في البلد فإننا نجده يتحدث عن "نصف قرن من التيه السياسي" عانت منه البلاد و كأنّ سفينتها وصلت-اليوم- برّ الأمان و رست على شاطئ الأرض الموعودة الآمنة المستقرة التي كتب الله لنا في الوقت الذي لا يزال فيه الترحال السياسي و الانتجاع لمواسم "الخير" المـُـمرِعَة ديدن كثير من ساستنا و عليّة القوم عندنا، و لا يزالون حائرين تائهين كلما غاب نجم رئيس و طلع نجم آخر، فنراهم يمدحون القادم و يذمون المغيَّبَ المعزول حتى و لو كانوا بالأمس القريب من أخص معاونيه و مقرّبيه و أصحاب الجاه عنده لكي يحافظوا على المنافع و المناصب و المكانة التي يحظون بها.

و أما الأحادية الحزبية و احتكار السلطة فلا أراها بارزة في عهد سابق بروزها في العهد الحالي، حيث يستمر الحزب الحاكم – مستعينا بأحزاب تتجمع فيما يعرف بـ"الأغلبية" - في احتكار السلطة و الانفراد بالأمور العامة سواء على مستوى القوانين و التشريعات حيث يتم فرض رأي الأغلبية في البرلمان – دون مراعاة لبعض الآراء الوجيهة للمعارضة و من ذلك على سبيل المثال: "قانون الإرهاب"- و سواء على مستوى التنفيذ و العمل الحكومي أو التعيينات حيث ينفرد الموالون و المناضلون في الحزب و "الموالاة" بكل شئ، بدءا بالصفقات العمومية و انتهاء بالتعيينات المهمة، و لا أدل على ذلك من خـُـلـوّ الحكومة الحالية من وزير معارض أو مستقل، و الشيء نفسه ينطبق على "المناصب السامية" كالولاة و مدراء الإدارات الكبيرة و رؤساء الهيآت الوطنية العمومية وكذلك بالنسبة للسفراء إلخ.. حيث لا يتم تعيين غير المؤيدين للرئيس - رئيس الحزب "الأول" و المخلصين لـ"حزبه"!-... فما الذي تَـغيـّر حتى يفتخر "الرئيس الثاني" للحزب الحاكم بانتهاء عصر "الأحادية و احتكار السلطة" ؟ و هل ثمة إشراك سياسي حقيقي لبقية أطراف العملية السياسية في البلد خصوصا منها ما يتعلق بتطبيق "اتفاقية داكار" التي أنهت "أحادية عسكرية" بأخرى "ذات زي مدني" و بشكل أكثر قـَبولا و شرعية؟.

أما "الدكتاتورية العكسرية الحالكة"، فلا يستطيع الحزب الحالي البراءة منها، ذلك أنها كانت الصفة المييزة و السائدة في الأنظمة السابقة خصوصا منذ انقلاب العاشر يوليو – الذي تمر ذكراه اليوم - و لم تنته عند انقلاب الثالث من أغسطس و لا السادس منه! و الذين كان مهندسوهما فاعلين رئيسيين في كل الأنظمة السابقة بدءا من "العقيد" و انتهاء بـ"الجنرال"، بل ظلّت هذه الدكتاتورية تترى و تـُغيـّر شكلها و لـَبـُوسها كلما اقتضت المرحلة ذلك، رافعة شعارات نقد الماضي و الإكثار من الأمل الزائد و القيام بإصلاحات شكلية و مرحلية سرعان ما يتم التراجع عنها و استبدالها بسياسات مشابهة لسياسات الماضي "البغيض" بل و أسوأ منها في بعض الأحيان.

و لعل انقلاب السادس من أغسطس 2008 -و الذي أطاح بأول رئيس مدني منتخب و ما تلاه من محاولة لتشريع الوضع القائم من خلال "أجندة أحادية" حاول العسكر تمريرها في 06/06/2009 و نجحوا بعد ذلك – وبدعم خارجي- في خداع المعارضة و الضغط عليها حتى قبلت اتفاق داكار - لعله كان النموذج الأبرز للدكتاتورية العسكرية التي تفرض نفسها و يفرضها الآخر الغريب من خلال كل وسائل الترغيب و الترهيب، كما أن هذه الدكتاتورية ظلت تستخدم نفس المنهج و تسعى لنفس الغايات من خلال احتكار السلطة و النفوذ و من خلال استخدام الجيش و القبيلة و رأس المال السياسي و إن اختلف اللاعبون و تبدّل الترتيب الطبقي للنخبة الحاكمة.

إن ما لم تفهمه النخب المتعاقبة على حكم البلد هو أنه لا يمكنها أن تبقى وحيدة في الميدان، و لا ينبغي لها أن تكون كذلك، لأن انفرادها بالسلطة و احتكارها للمناصب يؤدي إلى فشوّ الفساد و المحسوبية و غياب الشفافية و المحاسبة، كما يؤدي إلى قتل الإبداع وروح المبادرة، حيث يكون الشرط الوحيد للحصول على منصب أو جاه هو الولاء السياسي و العلاقات الاجتماعية و الجهوية و ليس المستوى العلمي أو الإخلاص و الجدّ في العمل، كما أن نواميس الكون و أبجديات السياسة تقتضي إشراك الآخر و السماح له بإبداء رأيه في كل القضايا بل و إشراكه في رسم السياسات و تنفيذها، و الأمثلة على ذلك كثيرة، و لا أدل على ضرورة ذلك و أهميته من احتفاظ أوباما "الديمقراطي" بوزير دفاع من غير حزبه، وتعيين ساركوزي لوزير خارجية "اشتراكي" في منصبين من مناصب "السيادة"! فهل يتجرأ النظام الحالي على تعيين وزراء من المعارضة و منحهم حق التصرف وفق القوانين و الترتيبات المنظمة لوزرارتهم ؟ حتى يُثبت أنه تعددي و وطني و غير أحادي!.

و لعل مما يحسن التنبيه عليه هنا في خاتمة المقال أن الحزب الحاكم أعاد إنتاج وسائل من سبقه من الأحزاب و التنظيمات السياسية و العسكرية الحاكمة ( الهياكل، الحزب الجمهوري، وعادل) حيث أذكى جذوة الانقسامات القبلية و العشائرية، و قام باستخدام التزوير في بعض المناطق فزاد عدد منتسبيه فيها على عدد المسجلين على القوائم الانتخابية، كما استخدم أساليب الترغيب و الترهيب – كالتعيينات و الحرمان منها أو كالحصول على الصفقات العمومية... في التأثير على إرادة الناس، و لا يزال الحزب و هيآته الحاكمة محل انتقادات علنية و سرية من بعض المنتسبين إليه – طوعا أو كرها- بسبب ما يصفونه بمركزية القرار في الحزب و احتكار النفوذ و تقاسم السلطة و المنافع فيه – و في الدولة - بين قطبي السلطة القائمة (رئيس الجمهورية و قائد الأركان) مما يجعل بقية المشاركين فيه متفرجين على عملية صنع القرارات و تنفيذها، مما يدل على استمرا ر "...الأحادية الحزبية و ما تعنيه من احتكار مقيت للسلطة... و ) الدكتاتورية العسكرية الكالحة "وإن لبست هذه الدكتاتورية لباسا مدنيا و تزينت بحليّ الخطابات الجميلة الرنانة كمحاربة الفساد و دعم الفقراء و برامج التنمية في استنساخ مشوّه لمميزات كثير من الأنظمة المتعاقبة على البلد طيلة خمسين سنة من "التيه السياسي" الذي تسببت فيه الحكومات المتعاقبة و لم تقدم المعارضات – للأسف- بديلا مقنعا عنه، مما يجعل البعض يخشى من نصف قرن آخر من "التيه السياسي" و عدم الاستقرار و تكرار المحاولات السابقة في التغيير و التبادل –غير السلمي- على السلطة و القيام بإصلاحات ارتجالية غير مدروسة و غير مبنية على قواعد علمية و سياسية رصينة تضمن لها النجاح و البقاء.

(*) الأمين العام للمركز الموريتاني للحوار-أمريكا

10. يوليو 2010 - 9:22

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا