تحتاج المعارضة الموريتانية ـ وبكل مكوناتها ـ لأن تطرح هذا السؤال، وتحتاج لأن تبحث له عن إجابات غير متسرعة، ولو أنها فعلت ذلك لوجدت أن من مصلحتها توقيع الميثاق الجمهوري.
لقد عبرت أحزاب المعارضة عن مواقف سلبية من الميثاق الجمهوري، وقدمت حججا لتبرير رفضها له، سنتوقف معها بعد حين، ولكن قبل ذلك دعونا نتحدث عن نقاط ضعف المعارضة في هذه الفاصلة السياسية من تاريخها، وذلك تمهيدا للإجابة على السؤال العنوان.
تُعاني المعارضة في الوقت الحالي من عدة نقاط ضعف، يمكن إجمالها في النقاط التالية:
1 ـ الفشل في خلق جبهة موحدة تتفق على الحد الأدنى من العمل المعارض المشترك، عكس ما كان يحدث في الماضي، حيث كانت توجد دائما عناوين كبرى تجمع المعارضة : الجبهةـ المنسقية ـ المنتدى ـ مجموعة الثمانية ...إلخ.
خلال السنوات الأربع الأخيرة لم تتمكن المعارضة من الاتفاق على تشكيل جبهة أو منسقية تجمعها، وتمكنها بالتالي من ممارسة الحد الأدنى من العمل المعارض المشترك، كما كان يحدث في الماضي، ولا أظنها قادرة بشكلها الحالي على تشكيل تلك الجبهة في المستقبل المنظور؛
2 ـ الفشل في تحريك الشارع، فمن الملاحظ أيضا أن المعارضة لم تستطع أن تحرك الشارع خلال السنوات الأربع الماضية، ولعل الاستثناء الوحيد يتمثل في مظاهرة واحدة للاحتجاج ضد نتائج الانتخابات الماضية، وقد ساعدها في ذلك الاحتجاج وجود عدد كبير من المستائين من نتائج تلك الانتخابات من خارج المعارضة؛
3 ـ الفشل في التحضير الجيد للانتخابات الرئاسية القادمة، فحتى الآن لا يوجد مرشح معارض قادر على أن يجمع حوله أكبر عدد ممكن من الأحزاب المعارضة، مما يعني أنه لن يكون هناك منافس جدي لمرشح النظام (الرئيس الحالي). في الماضي كانت هناك دائما قيادات معارضة قادرة على إقناع طيف كبير من المعارضة بالالتفاف حولها، أما اليوم فلا توجد مثل هذه القيادات.
4 ـ تعاني المعارضة بالإضافة إلى كل ذلك من صعوبات تجاوز المرحلة الانتقالية التي تعيشها منذ فترة، وذلك في ظل تراجع، بل وانتهاء، دور القادة التاريخيين، وإرهاصات ميلاد قادة جدد.
يظهر من نقاط الضعف أعلاه، أن المعارضة الحالية عاجزة أولا عن خلق عناوين للتنسيق فيما بينها وممارسة الحد الأدنى من العمل المعارض المشترك، وعاجزة ثانيا عن تحريك الشارع، وعاجزة ثالثا عن التحضير الجيد للانتخابات الرئاسية القادمة، وعاجزة رابعا عن تجاوز المرحلة الانتقالية التي تعيشها منذ فترة، وفي ظل هذا العجز المتعدد الأوجه يكون من الأفضل للمعارضة أن تحاول تحقيق مطالبها العالقة من خلال الحوار مع السلطة، ويمكن للميثاق الجمهوري أن يشكل أساسا لذلك الحوار، وأن يحسن من حال الديمقراطية في بلادنا، وأن يهيئ لبناء مؤسسات دستورية قوية تعزز مستقبلا من القدرة التنافسية للمعارضة.
وبالعودة إلى أرشيف المعارضة خلال العقود الماضية، فسنجد أن المكاسب السياسية التي حققتها المعارضة في كل تاريخها النضالي، وحتى تلك التي حققتها في فترات قوتها وقدرتها على تحريك الشارع، كان أغلبها ـ إن لم أقل كلها ـ نتيجة لحوارات مع الأنظمة المتعاقبة.
وإذا ما اتفقنا على أن كل حوارات المعارضة مع الأنظمة المتعاقبة، وسواء شاركت فيها المعارضة بكاملها أو بطيف من أطيافها، أتت بمكاسب للمعارضة تتفاوت من حيث درجات الأهمية، إذا ما اتفقنا على ذلك فسيكون من المهم أن نتوقف مع الحجج التي برر بها بعض المعارضين رفضهم للتوقيع على الميثاق الجمهوري.
كان من أهم الحجج التي بررت بها المعارضة رفضها للتوقيع على الميثاق:
أولا / أن الحزبين المعارضين اللذين أعدا الميثاق لا يمثلان اليوم المعارضة، وذلك بعد أن فشلا في آخر انتخابات في الحصول على أي تمثيل في البرلمان.
لا خلاف على وجاهة هذه الحجة، ولكن قد يكون من المهم أن ننظر لهذه الحجة من زاوية أخرى، وهو ما سنفعله من خلال التوقف مع النقاط التالية:
1 ـ إن القول بأن الحزبين اللذين تقدما بالوثيقة لا يمثلان المعارضة، على الأقل انتخابيا في الوقت الحالي، هو قول صحيح لا جدال فيه، ولكن أليس من الأفضل أن تكون الوثيقة مقدمة من طرف حزبين معارضين لم يعد بمقدورهما أن ينافسا بقية الأحزاب المعارضة، أليس ذلك أفضل من أن تكون الوثيقة مقدمة من حزب أو حزبين منافسين لبقية أحزاب المعارضة، فمثلا لو كانت الوثيقة مقدمة من حزب تواصل أو من حزب الصواب مثلا لكان في موافقة بقية أحزاب المعارضة عليها إعطاء مكانة سياسية لصالح حزبين معارضين منافسين على حساب بقية أحزاب المعارضة، وذلك مما قد لا تقبل به بقية أحزاب المعارضة. أما الموافقة على وثيقة تقدم بها حزبان معارضان غير ممثلين في البرلمان، وأصبحا خارج دائرة التنافس بالنسبة لبقية الأحزاب المعارضة، فمثل ذلك لن يشكل خطرا ولا تهديدا تنافسيا لبقية الأحزاب المعارضة؛
2 ــ من المهم جدا استحضار البعد الأخلاقي في العمل السياسي، وفي اعتقادي الشخصي أن تبني رئيس الجمهورية لوثيقة تقدم بها حزبان معارضان كانت لهما مكانتهما الكبيرة في الماضي، ويمران اليوم بظرفية صعبة جدا، أعتقد أن في ذلك التبني لمسة أخلاقية مهمة، وأعتقد كذلك أن أحزاب المعارضة كانت أولى من رئيس الجمهورية بالتعامل أخلاقيا مع قائدين تاريخيين وحزبين معارضين عريقين لهما أيادي بيضاء على الكثير من المعارضين الذين يرفضون اليوم الميثاق الجمهوري الذي تقدما به.
أخلاقيا كان على المعارضة أن لا تبخل على قادتها التاريخيين بالتشجيع، وهما يلعبان مباراة الاعتزال السياسي من خلال تقديم وثيقة الميثاق الجمهوري. يستحق الرئيسان أحمد داداه ومحمد مولود خروجا مشرفا من المشهد السياسي، ومع أنني من الذين كانوا يتمنون أن يكون القادة التاريخيون للمعارضة قد خاضوا مباراة الاعتزال قبل سنوات من الآن، ولكن ما داموا قد أجلوا مباراة الاعتزال، فعلى المعارضة أن تودعهم بما يليق بحجم تضحياتهم التي قدموها للمعارضة وللوطن خلال العقود الماضية.
ثانيا / من الحجج التي قدمتها بعض أحزاب المعارضة لتبرير رفض الوثيقة أنها لم تشرك في إعدادها، وهذه حجة وجيهة، فقد كان من الأسلم والأفضل أن تشرك بقية الأحزاب في إعداد هذه الوثيقة، ولكن ما دام ذلك لم يحصل فإن المهم الآن هو محتوى الوثيقة وليس من أعدها ولا من قدمها.
لقد تحدثتُ في مقال سابق عن محتوى الوثيقة راصدا خلال حديثي ذاك بعض النواقص والاختلالات، والتي كان من أبرزها أن الوثيقة لم تتحدث ـ ولو بكلمة واحدة ـ عن اللغة العربية وعن تفعيل ترسيمها في التعليم والإدارة. كما أنها لم توفق في ترتيب المشاكل والتحديات التي تهدد بلادنا في الوقت الحالي، فبدأت بمشاكل لم تعد مطروحة بنفس الحدة (الإرث الإنساني) كما كانت مطروحة في عهد ولد الطايع، وأخرت مشاكل أخرى أصبحت أكثر إلحاحا كما هو الحال بالنسبة للفساد، ومشاكل الشباب وإصلاح الإدارة..إلخ.
صحيحٌ أن هناك أخطاء ملحوظة ونواقص مرصودة في محتوى الوثيقة، ولكن الصحيح أيضا أن ملحق الاتفاق السياسي في الوثيقة، والورشات التي بوب عليها، والتي ستشمل 17 محورا ستكون كافية لتجاوز تلك الأخطاء الملحوظة والنواقص المرصودة.
ثالثا/ أن الميثاق الجمهوري يصب في مصلحة النظام، وهذا شيء لا يمكن إنكاره، ولكنه يصب أيضا ـ وبنفس القدر وربما أكبر ـ في مصلحة المعارضة، وهذا ما بيناه في الفقرات السابقة، والأهم من كل ذلك أنه يصب في مصلحة موريتانيا التي توجد في منطقة تكثر فيها الانقلابات، ويتمدد فيها الإرهاب ويتسع، وتتصارع فيها القوى العظمى.
وحتى إذا ما افترضنا جدلا أن الميثاق الجمهوري ليس في مصلحة المعارضة، أليس من واجب المعارضة في هذه الحالة أن تضحي بمصلحتها الضيقة من أجل المصلحة العليا للبلد، وهي مصلحة ستتحقق للبلد في حالة اتفق كل الطيف السياسي على ميثاق جمهوري يتم العمل به في الفترة القادمة.
حفظ الله موريتانيا..