جففت "أسماء" المطلقة الواقفة على باب الخمسين من عرقها المتدفق على جبينها الأسمر وسمات الإعياء والخيبة مرسومة على وجهها الشاحب معلنة نفاذ آخر مخزون احتياطي للجمال في جغرافيا جسمها الضئيل...!.
ألقت المسكينة بنفسها على حصير بالي في كوخ متهالك بالكاد يخفف من حر شمس الأحياء الشعبية الحارقة، وقبل أن تستسلم للنوم تعالت إلى مسامعها صيحات أطفالها الفرحين بقدومها المتأخر بعد أن طال انتظارهم وكادت من الجوع تغلي بطونهم، طار الكرى من أجفان الأم المسكينة ورأت من الخير أن تحدث صغارها بما لاقته من العذاب جراء الوقوف الطويل وسط الزحام الشديد قبل أن تتمكن من انتزاع كيلوغرام واحد من الأرز هو ما جاد به القيمون الكرام على دكان "أمل" الموجود في حيهم الشعبي، والحقيقة يا أبنائي استطردت الأم تقول أنني لا أملك ثمن اللحم والزيت...!
بدت الدهشة واضحة على جباه الصبية الجياع وساد الصمت جو المكان، واستغرقت الأم بدورها في التفكير في مستقبل أبنائها بعد أن نقلتهم قسوة الحياة من روح البراءة إلى واقع الكدح والمسؤولية، قبل أن يأخذها طائف من الذكريات الجميلة حين كانت تتقاسم ثقل المعيشة مع زوج حنون حملته ظروف الحياة الضاغطة على أن يهجرها تاركا وراءه أطفالهما الثمانية يعتصرون من شدة الجوع...!.
عادت الأم المسكينة من إجازتها الذهنية إلى واقع أطفالها الجياع وأخذت في إعداد الغداء على طريقة "أمل" وبين الأمل واليأس وبعاطفة الأمومة الرقيقة تمنت الأم لو أنها وصلت سن اليأس قبل ردح بعيد لكان الأفضل لها والأرحم بأبنائها أن يبقوا هناك في عالم الأرحام حيث لا صدقات العيش على طريقة "أمل" ولا تعاسة منظر ازدحام الفقراء في بلاد أصبح كل أهلها فقـراء...!
آه إنها سجلات القدر الدقيقة التي لا مجال فيها للخطأ ولا للمراجعة، اقتنعت الأم وهي توزع طبق الأرز الصغير على أبنائها بمقادير بعيدة عن التطفيف مؤثرة نفسها بحبات قليلة من الأرز نصف الناضج كانت أسفل القدر عند نفاذ قنينة الغاز تحت المرجل وهي في طريقها إلى النضج...!
كانت الشمس مائلة إلى الغروب مؤذنة للظلام الدامس باكتساح ليل الفقراء حين سألت "غريبة الزمان" الصغيرة والدتها "أسماء" عن موعد العشاء هل هو قريب؟ تعثرت الكلمات على لسان الأم المسكينة قبل أن تقول لابنتها إن العشاء لم يحضر بعد.. لكن تعالي يابنتي أقص لك بعض الحكايات التي كانت جدتي تصبرني بها عندما يتأخر موعد العشاء.. تأثرت الأم كثيرا حين حاولت استجماع ذكريات الماضي وهي تعلم في غضاضة نفسها أن الزمان مختلف تماما وأن الظروف كانت أحسن بكثير مما هي عليه الآن فرغم صعوبة الوسائل وشح الموارد آنذاك إلا أنهم كانوا سعداء ولم يعرفوا يوما للجوع طعما...!
اسمعي يا "غريبة الزمان" يحكى أنه كان يا مكان في قديم الزمان ملك عزيز واسمه "جورج الثالث" حامي حمى الإنكليز، وكان فيما كان يا صغيرتي يضطهد مستعمراته في بلاد الأمريكان، فثاروا ضده وهزموا جيشه، فكان من الحكمة برأيه أن يمنحهم بعض التنازلات بعدما ارتفعت أصواتهم في كل الجهات، لكن والدته الشريرة قالت له إياك أن تعطيهم ولو بعض الحقوق، وواصل حربك و"كن ملكا يا جورج".. فما كان منه يا عزيزتي إلا أن رجح رأيها حتى خسر الحرب كلها، ونجحت ثورة الأمريكان.. و.. و.. آه وانتهى الجوع وأكل الأمريكان يا أمي صاحت "غريبة الزمان" وحضر العشاء...!
التفتت الأم خلفها فإذا باقي الصبية قد ناموا بيد أن النوم لم يعرف طريقه إلى جفون "غريبة الزمان" التي أكملت ربيعها الخامس في السادس من أغشت الماضي.. وهي لا تزال تترقب حضور العشاء.. لا ليس بعد قالت الأم ولكن لدي حكاية أخرى عندما أنتهي من سردها سيكون العشاء قد حضر.. و.. و.. آه ولكن ليتك تسرعين يا أمي فأنا جائعة جدا..و.. و.. لكن قولي لي ما ذا حدث للملك بعد أن زال جوع الأمريكان..؟ نعم بنيتي سأحكي لك سريعا ولكن أصغ إلي وإياك أن تنامي قبل حضور العشاء...!
جاء في أحد كتب التاريخ القديمة حكاية عجيبة تقول، أنه في بلاد "واق الواق" سلط الله عليهم ملك جائر واسمه "جورج المتوكل على نفسه"، وكان سليل جهل وضلال، ويقولون يا بنيتي أن هذا الملك كان من عامة الجند وأنه دخل جيش السلطان بعدما فشل في إصلاح شأنه بكل الأثمان قبل أن تتملكه هواجس الخسران، وجاء زمان وانطوى آخر وانتقل العرش من سلطان لآخر، لكن الجندي بقي يتدحرج بطيئا في رُتبه، إلى أن جاء السلطان الجديد ورأى فيه شيئا يُقربه فرفع من رتبته وزاد من قدره فكان على رأس الجند في زمنه، وقويت بذلك شوكته وبان خبثه ومكره، فكان جزاء العبد لسيده جزاء لئيم والعياذ بالله، وانقلب الجندي على مولاه، وجلس مكان السلطان على عرشه وهو الفاشل من أيام صغره، فانتشر في زمنه الجوع والعطش وأصبح كل ناس مملكته فقراء فثار القوم أجمعين وارتفعت حناجر المعارضين له في عاصمة ملكه وفي باقي الأقاليم، وأصدر الملك أوامره باعتقال كل خارج على سلطانه، وكان للملك أم تدعى "الموالاة" وهي عجوز خبيثة عاصرت كل السلاطين ولها في السياسة رأي المستبدين، وكانت تسمي ابنها "ملك الفقراء" وكان هذا نذير شؤم على قومه فازداد فقرهم وساءت أحوالهم وتعطل عن العمل شبابهم مع قدرتهم على جلب الفائدة لقومهم، فتظاهروا أمام قصر الملك لكنه رماهم في الأحباس وقال بأنهم جهلة مفسدون وتجب معاملتهم معاملة الكباش، وعبثا يتصور عاهل الأوهام هذا كما يلقبونه أنه حول مدينتهم إلى مدينة فاضلة، ويقولون فيما يقولون يا "غريبة الزمان" أن العجوز نصحت ابنها بعدم الأخذ باللين، وقالت له مثل ما قالت والدة الملك العزيز "جورج الثالث" حامي حمى مملكة الإنكليز أن واصل قمعك و"توكل على نفسك" وكن "ملكا يا جـورج"...!.
انتبهت الأم إلى صغيرتها "غريبة الزمان" فإذا هي مستغرقة في النوم من وقت ليس بالقصير، فسكتت "أسماء" عن الكلام المباح وتركت بقية القصة للصباح وأسلمت للنوم ما خلفه اليوم الطويل من جسم مرهق وقلب جريح...!.
قالت العجوز جاء في كتاب "السكوت على الجوع" للتلفزة الوطنية ما نصه: "يجب على المسلم إغلاق باب بيته عند الفتن وانتظار رزقه هناك ولا يحل له الخروج ولو مات بسبب الجوع لأن ذلك يعد خروجا على السلطان والخارج على السلطان بائن فسقه مهدور دمه..." انتهى الاستشهاد بتصرف بسيط...!.
قال الراوي مما حفظناه عن الصحابي الجليل "أبي ذر الغفاري" رضي الله عنه قوله "عجبت لمن لم يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه" من دون تصرف...!.
مساؤكم رغيف وتصبحون على ثورة الجياع بعدما رحل النهار من زمن بعيد...!.