خرج الفرنسيون من مستعمرتهم السابقة موريتانيا بعد أن نهبوا ثرواتها ودون أن يتركوا بها شارعا واحدا معبدا مما جعل الدولة الوليدة تواجه تحديات جمة في مختلف المجالات بعد أن ترك الفرنسيون بصماتهم السيئة في الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الموريتاني.
فعلى الصعيد السياسي فإن فرنسا هي التي صاغت شكل النظام السياسي وأشرفت على تعيين أول رئيس لموريتانيا وعملت على خلق نفوذ قوي داخل المؤسسة العسكرية الموريتانية صاحبة الحل والعقد في المشهد السياسي الموريتاني المتلون.
ومنذ ذلك التاريخ وفرنسا تسعى للحفاظ على نفوذها الاستعماري في موريتانيا من خلال أسلوب حديث من أساليب الوصاية الإمبريالية لا يقل خطورة عن الاستعمار في شكله التقليدي، وقد نجح الفرنسيون في أن يظلوا أسياد المشهد السياسي الموريتاني بفضل التخطيط المحكم لمرحلة ما بعد الاستقلال عن طريق إعداد جيل نخبوي يرتبط ارتباطا وثيقا بالفرنسيين، وقد تمكنت فرنسا من إيصال ذاك الجيل لفرانكفوني المتشبع بالولاء لها إلى دوائر صنع القرار في موريتانيا، مما مكنهم من وضع أيديهم على مختلف شؤون البلاد.
وتتجلى سياسة الوصاية الفرنسية بشكل واضح من خلال الدعم الفرنسي لجل الانقلابات التي حدثت في موريتانيا على مدى تاريخها السياسي والتي غالبا ما تسفر عن نظام يدين بالولاء للفرنسيين ويحقق مصالحهم التامة، ومن الملاحظ لدى المراقبين للشأن السياسي الموريتاني أنه ما إن يبدأ أي من تلك الأنظمة العسكرية المتعاقبة في الرضوخ للمطالب الشعبية بشكل قد يهدد مصالح الفرنسيين حتى تبدأ مرحلة التخطيط للإطاحة به والتهيئة لما بعده.
فقد ساند الفرنسيون انقلاب العاشر من يوليو تموز عام 1978 الذي أطاح بالنظام المدني للرئيس المختار ولد داداه والذي يعد أول انقلاب عسكري تشهده موريتانيا، وجاء هذا الانقلاب نتيجة لمتغيرات عديدة من بينها قيام الحكومة الموريتانية آنذاك بتنفيذ سلسلة من المشاريع السياسية والاقتصادية مست من مصالح فرنسا من قبيل تخلص الحكومة من التبعية للفرنك الفرنسي وإنشاء العملة الوطنية في أواخر عام 1972 وإلغاء الاتفاقيات المجحفة في حق موريتانيا والتي كانت تربطها بفرنسا مثل تأميم شركة ميفيرما –Miferma- في سنة 1974، ليبدأ الفرنسيون في التخطيط لمرحلة ما بعد حكومة الاستقلال التي بدى أن استمرارها قد يضر بالمصالح الفرنسية في موريتانيا.
وواصل الفرنسيون تقوية نفوذهم في المشهد السياسي من خلال دعم وصول كل الدكتاتوريات العسكرية التي حكمت موريتانيا إلى الحكم و استبدالها حين انتهاء صلاحيتها بأخرى أكثر ولاء للمصالح الفرنسية، وأبرز مثال على ذلك دعمهم للمقدم محمد خونة ولد هيدالة في انقلابه عام 1980 ثم تخطيطهم للإنقلاب عليه من خلال دعوته للقمة الفرنسية الإفريقية في دولة بروندي لتتم الإطاحة به في 12 من ديسمبر عام 1894 على يد العقيد المدعوم فرنسيا معاوية ولد الطايع.
آخر تجليات الوصاية الفرنسية تمثلت في الدعم القوي للانقلاب الأخير الذي قاده الجنرال ولد عبد العزيز والذي تلقى معارضة قوية من طرف معظم القوى السياسية في موريتانيا، لكن الفرنسيين ألقوا بثقلهم القوي من أجل إضفاء الشرعية على الحركة الانقلابية لتقود تلك الضغوط إلى قبول معارضي الانقلاب باتفاق داكار الشهير، لينجح الفرنسيون في فرض الجنرال ولد عبد العزيز على الشعب الموريتاني حفاظا على مصالحهم السياسية والاقتصادية في البلد، حيث اكتسحت الشركات الفرنسية السوق الموريتانية وكان لها الحظ الوافر من رخص التنقيب في صحراء موريتانيا الغنية بالمعادن النفيسة والتي تعود عائداتها للشركات الفرنسية والغربية في حين يعاني المواطن الموريتاني من الفقر وتدني مستوى المعيشة والدخل.
واليوم ورغم إعلان افرانسوا اولاند من داكار أن عهد أفرانس آفريك قد ولى، ورغم المتغيرات الضخمة على المستويين الإقليمي والدولي يبدو أن فرنسا لم تدرك بعد أن الشعب الموريتاني وصل مرحلة البلوغ والنضج السياسي بعد ثلاث وخمسون عاما على الاستقلال التام عن فرنسا، فهاهم الفرنسيون من جديد يحاولون إعادة توجيه بوصلة المشهد السياسي الموريتاني بعد أمسية الرصاصات المجهولة التي أصابت الجنرال ولد عبد العزيز وما تلاها من حجب للرؤية وتعتيم على تفاصيل الأحداث، من الواضح أن فرنسا تسعى لإطالته حتى تُحْكم رسم خارطة التحول السياسي المنتظر في بلادنا، فهل نحن على أبواب الذكرى السنوية الثالثة والخمسون لعيد الاستقلال الوطني أم أننا أمام مشهد جديد من مشاهد الوصاية والاستعمار الفرنسي الحديث؟