أتذكر جيداً ذلك المساء من صيف 2016 حيث علمت أن هناك فرصة، ربما، في فرع جديد لشبكة الجزيرة الإعلامية في قطر.. تحديداً القناة الرقمية الجزيرة بلس..
كنتُ ساعتها في الدوحة أعد ملف الالتحاق بوكالة الأنباء القطرية بعد أن نجحت الأول في امتحانها للمترجمين بين اللغتين العربية والإنكليزية..
فقررتُ أن أتواصل معهم وأخوض هذا الغمار.. قدمت ملفي، وحددوا لي وقت الامتحان، أذكر أنه كان من 8 صفحات.. منه التحريري ومنه الترجمة في وقت قصير.. عملتُ جهدي وغادرت وبعد 3 أيام أخبرني زميل هناك أنني كنت الأول..
أتذكر ذلك الشعور عندما دلفت إلى كواليس هذه الشبكة التي ينطق كل ركن فيها وكل وجه بقصة تميز وتفرد.. هل هؤلاء فعلاً هم أولئك الصحفيون الذين طالما تابعناهم على الشاشة بلحمهم وشحمهم كما يُقال؟ إن جيلي والأجيال اللاحقة تربت على أن تكون الجزيرة معنا كشعوب في كل اللحظات الفارقة الحرجة من تاريخنا الحديث، وما أكثر تلك اللحظات، من حروب إلى ثورات.. فضلاً عن الدور التثقيفي التنويري.. وفتح النقاش والحوار الجريء في مناطق ومحاور كانت قبلها من التابوهات المحرمة..
كان جو أجي بلس مختلفاً حتى عن باقي أفرع الشبكة (القناة العربية، الوثائقية، الإنكليزية، الجزيرة نت..) فكان لها طابعها الخاص ونكهتُها الخاصة، فهي من حيث الأقسام فيها القسم الأصلي وهو الإنكليزي، والقسم العربي ثم بعد التحاقي بها افتُتح القسمان الإسباني والفرنسي.. ولعل أول ما لاحظت هو ذلك التنوع العرقي واللغوي فهنا تقريباً كل الجنسيات العربية وغيرها، فتجد اللبناني جنب المغربي، والفلسطيني جنب الجزائري، والهندي جنب البريطاني والموريتاني من أقصى الغرب العربي مع العُماني من أقصى الشرق العربي!
وكانت اللغة السائدة بين الأقسام المختلفة هي الإنكليزية فأصبحت هي (lingua franca) كما يقولون.. فهذا المكسيكي يتحدث مع الفرنسي بها، وذلك الموريتاني يتحدث بها مع الإسباني.. كل ذلك مع الاهتمام البالغ باللغة العربية وسلامتها في المواد التي تُنتج بها طبعا..
وقد لفت انتباهي الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة، ومنه الاهتمام بسلامة اللغة، أي لغة، بنيوياً وأسلوبياً، ولعل ذلك ناتج عن كون المديرة المسؤولة هي نفسُها مترجمة وتجيد عدة لغات ولها كتابات أدبية معروفة.
وفي هذا الجو المتنوع تنمو أفكار التعايش والتقبُّل والانفتاح على الثقافات الأخرى وملاحظة خصوصياتها وجمالياتها بعد انكشاف غشاوة المحلية والتقوقع والأحكام المسبقة التي يرى أصحابها الأغيار بصور نمطية غالباً لا علاقة لها بالواقع.
فكانت بيئة العمل وحدها مصدراً للمعرفة والتعلم، ليس فقط للغات، بل للثقافات والعادات وغيرها.
وكان يسود نوع من الألفة والحميمية بين الزملاء لم أعهده من قبل، فكنا كأسرة صغيرة مختلفة الأصل واللغة لكنها متفقة على الحب والتفاهم والصحبة!
فالإدارة كانت مثلاً تحتفظ بسجل لأعياد الميلاد، وكلما حان عيد ميلاد أحد الزملاء أقامت له/لهـا حفلاً صغيراً في المكتب، كما كنا نحيي المناسبات العامة في حفل خارج المكتب مثل الإفطار الجماعي في رمضان وبعض الأعياد..
كان الجو العام مختلفاً تماماً عما ألفته، فهنا التنوع العرقي والثقافي والود واللانمطية حتى في الديكور الذي كان باعثاً على الإبداع.
كما لفت انتباهي الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة، ومنه الاهتمام بسلامة اللغة، أي لغة، بنيوياً وأسلوبياً، ولعل ذلك ناتج عن كون المديرة المسؤولة هي نفسُها مترجمة وتجيد عدة لغات ولها كتابات أدبية.
بعد قليل لم أعد أحس أن هذا مكان عمل وأن هؤلاء زملاء وأن تلك إدارة! أصبحت هذه عائلة وأصدقاء، وأصبح المكان أكثر حميمية.. حتى عامل المقهى الذي يدور عليها بالمشروبات في المكاتب أصبح جزءاً من عائلة العمل، وكنا نجمع له آخر كل شهر معونة نقدية، إنه ذلك الهندي الهادئ البشوش المتقن لفن تحضير الكرَك خصوصاً، إنه محمد علي "باشا" الهندي.
وقد مررنا جميعاً كأسرة الجزيرة بعدة تحديات كبرى عايشناها فزادتنا ارتباطاً وتآلفاً، منها قضية حصار قطر 2017 وما صاحبه من مطالبات بإغلاق القناة، وهو تهديد وجودي يُضاف إلى تهديدات أخرى سابقة ولاحقة بقصف مقراتها وبقتل موظفيها، والكثير منهم استشهد في الميادين فعلاً لا قولاً رحمهم الله، ثم بعد ذلك جاء وباء كورونا العالمي والإغلاق الشامل والعمل من المنازل.. وهو أيضاً تهديد وجودي ربما للعالم أجمع.. وفي كل تلك المواقف بقينا أسرة متكاتفة على الحلو والمر كما يقولون (through thick and thin).
ومن ناحية الإنتاج والإسهام في تثقيف وإخبار جمهور أجي بلس، فالحديث يطول وقد كتبتُ منذ مدة عن الجانب الإنساني في قصصنا والتي صنعت، وتصنع، الفرق في حيوات كثيرين، خاصة سلسلة "قصة إنسان" التي أسهمت في إيصال أصوات الضعفاء والمهمشين وساعدت في تخفيف معاناتهم ونشر ذلك المقال في مجلة الصحافة الصادرة عن معهد الجزيرة للإعلام، (https://institute.aljazeera.net/ar/ajr/article/862).
كما كان لمنصتنا دور ريادي في تبسيط اللغة الفصحى وتقريبها من الجمهور الشاب حيث نحرص على سلامة اللغة في المنتج النهائي سواء كانت مكتوبة أو مسموعة أو مصمَّمة "غرافيكس"، كما كان علينا في كثير من الأحيان أن نعرِّب المصطلحات الجديدة التي تردنا في المصادر، وجمعنا هذه المستجدات فنَمت حتى صارت معجماً صغيراً للمصطلحات في شتى العلوم وهي خدمة ربما قصرت عنها بعض الجهات المسؤولة عن تطوير وتنمية وعصرنة لغتنا العربية..
كما عملنا أيضاً على تقعيد اللهجات وكتابتها كتابة معتمِدة على الأصل الفصيح، وهو مجال لم نجد فيه مثالا يُحتذى قبلنا، فكان علينا أن نمخر عباب ذلك البحر وحدنا، معتمدين على البحث في أصول الكلمات ومحاولة ربطها بالفصحى ما أمكن. وقد نشرتُ دراسة حول إشكاليات كتابة اللهجات العربية وسبُل تقعيدها.. في مجلة الصحافة الصادرة عن معهد الجزيرة للإعلام وهي على الرابط: (https://institute.aljazeera.net/ar/ajr/article/885)
وكذلك في مجلة الثقافة الموريتانية (العدد الثاني).
وبالمشاركة مع الأقسام باللغات الأخرى، فقد لعبت منصتنا دوراً ريادياً في إيصال الصوت العربي ووجهة النظر العربية للعالم، كما كنا لسان المهمشين والمظلومين، من الشباب العربي تحديداً. أو مَن يطلق عليهم "الألفينيون" Millennials.
إنها مشروع ثقافي وإعلامي رقمي رائد في منطقتنا وكما غيرت قناة الجزيرة، الأم، العالم العربي التلفزيوني، فإن أجي بلس، الابنة، ستغير العالم العربي الرقمي.
وبعد سنوات خمس بين هذه الكوكبة الدرية من المتميزين، أجدني ممتناً لمعرفتهم ولكوني ضمن هذا الفريق الرائع أكثر من أي وقت مضى.. وأحس رغم كل هذه المدة، أنني قد بدأتُ للتو!
على نهج الشاعر الدمشقي نزار قباني:
عشرونَ عاماً يا كتابَ الهوى ** ولمْ نزلْ في الصفحةِ الأولى!