لقد أجبرتني الردود الحادة لبعض القراء على أن أكتب ـ وفي أقل من ثلاثة أسابيع ـ مقالا ثالثا عن حسن نصر الله وعن التدخل العسكري لحزبه في سوريا، وذلك لأقدم بعض الإيضاحات التي أرى أن تقديمها قد بات ضروريا، خاصة وأني سأحاول من خلال هذه الإيضاحات أن أفكك موقفي من التدخل في سوريا
إلى شظايا وإلى أجزاء متناثرة، وذلك لاعتقادي بأن محاولة تفكيك هذا الموقف قد تكون هي الرد الأنسب على كل تلك التعليقات الحادة. كما أنها ستكشف بعض اللبس عن بعض ما كتبتُ في المقالين السابقين، وستزيد ـ وهذا هو الأهم ـ من وضوح موقفي الذي اتخذتُ لمن أراده من القراء واضحا، ومن غموضه والتباسه لمن أراده منهم غامضا وملتبسا.
إنها ثمانية إيضاحات سأقدمها من خلال هذا المقال:
أولها: لا جدال في أننا نعيش زمن الفتن، وفي زمن الفتن يستحيل أن يتمايز الناس إلى فسطاطين: فسطاط خير لا شر فيه، وفسطاط شر لا خير فيه. ولو أن الناس تمايزوا بذلك الشكل لما كانت هناك أي ضرورة لتفكيك أي موقف.
وفيما يخص المسألة السورية، واتخاذ موقف منها، فإنه لن يكون بمقدورنا أن نقول بأنه في سوريا اليوم يمكننا أن نتحدث عن فسطاط خير مطلق لا شر فيه، وفسطاط شر مطلق لا خير فيه. لا يمكننا إطلاقا أن نصنف الطرفين المتصارعين في سوريا بذلك التصنيف المبسط، ولكنه يمكننا ـ في المقابل ـ أن نبحث عن الفسطاط الأقل شرا والأكثر خيرا لكي ندعمه، دون أن يعني ذلك أننا نبرئه من كل شر، أو أننا ننفي عن خصمه كل خير.
ثانيها: إن من مظاهر الفتن ومن نتائجها أن يجد العقلاء أنفسهم في حيرة من أمرهم، على العكس من عامة الناس التي قد لا يعاني أغلبها من تلك الحيرة، بل بالعكس، فإن الغالبية قد تحسم موقفها في وقت مبكر وبجرأة تحسد عليها.
وفي زمن الفتن كثيرا ما يجد العقلاء أنفسهم أمام خيارين اثنين، كلاهما له ما يبرره، فإما أن يتجاهلوا ما يحدث، ويكتفوا بالتفرج بحثا عن سلامة وهمية، وإما أن يجتهدوا فيتخذوا موقفا مما يجري من أحداث، ولكن عليهم في هذه الحالة أن يعلموا بأنهم كلاعب السرك الذي قرر أن يسير على حبل معلق في الهواء، لذلك فإن عدم التركيز ولو للحظة خاطفة قد يتسبب في سقوط لا قيام من بعده.
ثالثها: لا يحق للمتفرجين من أمثالي إذا ما شاهدوا لاعب سرك يسقط سقطة مخزية في زمن الفتن هذا أن يجعلوا من ذلك السقوط مبررا لأن يتجاهلوا رصيد ذلك اللاعب من الإثارة، أو أن يتجاهلوا بأنه كان قد أمتع المتفرجين من قبل سقطته المدوية تلك بالكثير من الحركات المدهشة التي لم يسبقه إليها أي لاعب.
وبهذا المنطق يمكنني القول بأن سقوط حسن نصر الله في المستنقع الطائفي، بعد تدخله في القصير، لا يبرر بأي حال من الأحوال أن ننكر أو أن نجحد ما قدم هذا الرجل من مواقف مشرفة، ومن تضحيات كبيرة للأمة.
ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لما ترددت ولا لحظة واحدة في أن أقف مرة ثانية في صف هذا الرجل، وذلك لأني كنت أعده ـ من قبل التدخل في سوريا ـ من أهم رجالات الأمة، ومن أقدرهم على انتزاع النصر من عدوها الأول.
رابعها: لم أتردد ولو للحظة واحدة في مناصرة الشعب السوري في ثورته المشروعة، ولكني لم أكن راضيا رغم فظاعة الطاغية بشار ورغم وحشيته بأن تكون سوريا قبلة للمسلحين من الأقطار الأخرى. كان علينا أن ندعم الثوار السوريين إعلاميا، وماليا، وبالسلاح عندما بدأت المواجهة، ولكن لم يكن من الصواب أن نسمح بدخول مسلحين من أقطار أخرى، لأن ذلك سيعطي مبررا لتدخل أنصار النظام. كما أنه سيزيد من تعقيد المسألة السورية حتى من بعد سقوط بشار ونظامه، وذلك لأن الكثير من أولئك المسلحين لن يقبلوا بالعودة إلى الأماكن التي جاؤوا منها إذا ما سقط نظام بشار.
ثم إن أولئك المتطوعين كان أولى بهم أن يقودوا ثورات في بلدانهم، وأن يسقطوا المستبدين الذين يحكمونهم، والذين لن يتورعوا عن ارتكاب جرائم وحشية كجرائم بشار، إذا ما مروا بنفس الظروف التي مر بها بشار، وإذا ما ثارت ضدهم شعوبهم، وحُق لشعوبهم أن تثور، فما أمراء الخليج وملوكه بأقل وحشية أو دكتاتورية من بشار.
خامسها: لم أكن أتمنى أن يكون الخطاب المذهبي حاضرا بهذه القوة لدى الطرف المناصر للثورة السورية، فكان بإمكان أنصار الثورة السورية أن يناصروها، وأن يواجهوا نصر الله وحزبه وإيران وروسيا دون رفع لواء المذهب، و دون أن يتسببوا في المزيد من الشحن الطائفي والمذهبي والذي لا يخدم إلا أعداء الأمة.
ولعل أخطر ما في تدخل نصر الله في سوريا ـ وهذا ما أشرت إليه في مقالي السابق ـ هو أن ذلك التدخل كان من الواضح بأنه سيؤدي حتما إلى مزيد من الشحن الطائفي لدى السنة، وإلى إعطاء المزيد من الحجج القوية لأولئك الذين ظلوا يرفعون لواء الطائفة من علماء السنة. كما انه سيؤدي إلى غياب أو ضعف كل تلك الأصوات العاقلة والراشدة من علماء السنة ومن مثقفيها ومن عقلائها الذين كانوا يسعون دائما إلى أن يجنبوا المنطقة الحروب الطائفية التي لن ينتصر فيها إلا أعداء الأمة.
سادسها: لم يعد خافيا أن حسن نصر الله قد تدخل في سوريا لأسباب طائفية، حتى وإن حاول أن يخفي ذلك. ومما يؤسف له هو أن حسن نصر الله الذي كان يتهم بعض علماء السنة وبعض مثقفيهم بالكيل بالمكيالين لأنهم ناصروا الثورة في تونس وفي مصر وفي ليبيا، ولكنهم وقفوا ضدها في البحرين لأن غالبية الثوار كانوا من الشيعة. إن هذا الخطأ نفسه قد وقع فيه أيضا حسن نصر الله عندما ناصر كل الثورات، وخاصة منها الثورة في البحرين التي يقودها الشيعة، وذلك في الوقت الذي وقف فيه ـ وبقوة ـ ضد الثورة السورية التي يقودها السنة.
سابعها: من المغالطات التي وقع فيها حسن نصر الله، والتي وقع فيها أيضا الكثير من أنصار نظام بشار هو أنهم يحاولون الآن أن يعترفوا بأن لنظام بشار بعض الأخطاء، وأن لبعض المطالب الشعبية وجاهة، ولكن تلك الأخطاء لا تبرر ما حدث من ثورة مسلحة، وأن الحوار هو السبيل الأمثل لتجاوز الأزمة.
الغريب أن حسن نصر الله كغيره من داعمي نظام بشار، لم يعترفوا بتلك الأخطاء في الأيام الأولى من الثورة السورية، بل إنهم بالعكس أعلنوا دعمهم لنظام بشار في وقت مبكر ضد الاحتجاجات السلمية، وعبروا عن عدم شرعية المطالب الشعبية التي يعترفون الآن بشرعيتها، كما أعترف بشار نفسه بشرعيتها، ولكن بعد فوات الأوان. ولو أن أنصار بشار، وعلى رأسهم حسن نصر الله اعترفوا بوجاهة بعض مطالب الثوار عند اشتعال الثورة، لصدقناهم الآن فيما يدعون.
ثامنها: وختاما يمكنني أن أجمع شظايا موقفي المفكك، وأن ألخصه على النحو التالي : إني أناصر ـ وبشدة ـ الثورة السورية، ولكن ذلك لا يعني بأني أبرئ كل الثوار من أي خطأ. وإني أندد بتدخل نصر الله وحزبه في سوريا بأقصى ما يمكن من عبارات التنديد، ولكن ذلك لن يجعلني أتجاهل ماضي هذا الحزب المشرف جدا. وإني أدعم الجهود المقام بها حاليا لمناصرة الثورة السورية ولدعمها، ولكني أرفض أن يتم ذلك من خلال الشحن المذهبي، أو أن يكون تحت لواء الدفاع عن الطائفة وعن المذهب.
حفظ الله موريتانيا.