مرت الأمة الإسلامية والوطن العربي بمحن كثيرة على مر التاريخ، لكنها كانت تخرج من كل محنة أكثر قوة وعزة وكرامة. ولعل من قرأ جانبا من هذا التاريخ واطلع على ما مرت به الأمة من تلك المحن يدرك أننا أمام تجربة شبيهة إلى حد كبير بغزو المغول للأمة وتخاذل أمراء المسلمين في مواجهتهم وتركهم عاصمة الخلافة العباسية "بغداد" تسقط بيد الغزاة، حيث أبادوا أكثر من مليون مسلم في بغداد وملايين أخرى في جميع المدن والإمارات الإسلامية التي غزوها، في الوقت الذي كان جل الأمراء (المسلمين) و (العرب) يبايعون هولاكو ويرسلون له بالهدايا وآيات الولاء والطاعة حتى قبل أن يصل إليهم، ورغم احتقاره لهم واعتبارهم مجرد عبيد له ولأقل جندي مغولي، كان حرص هؤلاء "الأمراء" على حب الحياة وحب البقاء أكثر من حرصهم على الكرامة ومواجهة الغزاة والانتصار لدينهم وأمتهم، فظلوا على هوانهم ومذلتهم حتى قيض الله للأمة قادة مؤمنين قضوا على جبروت المغول وكبدوهم أول هزيمة لهم منذ سنوات طويلة وذلك في معركة عين جالوت بفلسطين، حيث كانت تلك المعركة الفاصلة بمثابة بداية النهاية للوجود المغولي في بلاد المسلمين...
نفس التجربة مرت بها الأمة في مواجهة الغزو الصليبي حتى قيض الله لها من يستأصل شأفة الصليبيين وينهي وجودهم في بلاد العرب والمسلمين.
إن الأمة اليوم تمر بتجربة مثل تجارب عديدة سابقة كانت بمثابة محنة حقيقية، حيث تمر اليوم الذكرى السادسة والسبعين لاغتصاب فلسطين وانتزاع أخصب أراضيها من أهلها حين قرر الصهاينة والصليبيون إقامة جسم غريب يفصل مشرق الأمة العربية عن مغربها، وكان لزاما على القوى الغربية، التي خططت منذ 1907 لهذا المشروع الاستعماري الكبير، أن تدعم كيانها الجديد بالمال والسلاح وبكل الوسائل بما في ذلك حماية قادته الإرهابيين من المساءلة القانونية ومن الإدانة في مجلس الأمن. بل إن أغلب عواصم الغرب هذه مثل واشنطن وباريس ولندن وبرلين وغيرها شاركت في حروب هذا الكيان العنصري ضد الدول العربية بما في ذلك العدوان الثلاثي عام 1956 على مصر بعد تأميم قناة السويس المصرية حيث واجهت مصر جيوش ألكيان الصهيوني وفرنسا وبريطانيا لرفضها قرار التأميم.
كما شاركت فرنسا في بناء مفاعل ديمونا النووي وأسهمت إلى جانب واشنطن ولندن في حرب يونيو 1967 فضلا عن حرب أكتوبر 1973 وقبل ذلك تجهيز جيش الكيان الصهيوني بالأسلحة والمعدات الحديثة في حروب الصهاينة مع الجيوش العربية منذ ما قبل 1948 وحتى اليوم.
عملية "طوفان الأقصى" كشفت للأمة وجوه خيانة جديدة شبيهة بأمراء الخيانة العرب والمسلمين في غزو التتار للأمة وإسقاط الخلافة الإسلامية، حيث بدا واضحا أن بعض الدول (العربية) هي أكثر ولاء للغزاة الصهاينة وللغرب الصليبي من انتمائهم المفترض للأمة العربية الإسلامية ولمعتقدات وثوابت المسلمين، فكانت ردودهم شديدة الولاء لــ(هولاكو) الجديد، الإرهابي نتن ياهو، من ولائهم لله ورسوله، لذلك ساووا بين الجلاد والضحية، ولم ينبسوا ببنت شفة لإدانة استفزازات الإرهابي نتن ياهو وجيوشه ومستوطنيه للفلسطينيين سواء من خلال إهانة الحرائر الفلسطينيات في المسجد الأقصى أو تدمير منازل الفلسطينيين العزل وقتلهم بدم بارد، واليوم يدين هؤلاء الخونة، ما سموها بــ(استهداف المدنيين الإسرائيليين)، فأين هي بيانات هؤلاء المساندة لفلسطين والرافضة لانتهاكات الكيان العنصري الصهيوني الغاصب ؟!.
عملية "طوفان الأقصى" نفذها الشعب الفلسطيني بإرادته، وهو في ذلك لا يعول على أي بلد عربي ولا على أي دعم عربي، مع استثناءات قليلة جدا، بل يعول على أنه ينتصر للأقصى الذي يدنسه الصهاينة الغاصبون يوميا وينتصر لحرائر فلسطين اللواتي يتعرضن يوميا للسحل والإهانة أمام عدسات الكاميرات وعبر شاشات التلفزيون، ولا أحد يستنكر أو يدين أو يعاقب الغزاة المجرمين.
كان لا بد من رد، ومن رد قوي جدا، وليست عملية "طوفان الأقصى" إلا بداية لعملية تحرير أكبر سيتبعها انهيار حقيقي لأسطورة تسمى (إسرائيل) إذ لن تفيدها البوارج وحاملات الطائرات الأمريكية ومختلف الأسلحة المتطورة التي توفرها العواصم الصليبية الغربية لحماية هذا الكيان.
سيدرك كل من يتابع المشهد اليوم أن آلاف الشهداء يمثلون ضريبة الحرية، حيث لا بد من قرابين لاستقلال حقيقي لا منة فيه لأحد، ذلك أن الحل الوحيد الذي يمكن أن يدوم ويمثل الحل العادل والدائم لصراع الوجود هذا هو عودة شذاذ الآفاق الصهاينة الوافدين على فلسطين منذ 1937 وحتى اليوم إلى بلدانهم الأصلية في أوروبا وإفريقيا وآسيا وأمريكا، فلن يبقى في فلسطين سوى أبناؤها من عرب ويهود، ولن يكون هناك من حل ممكن سوى إعلان دولة واحدة هي فلسطين الديمقراطية التي يتعايش فيها جميع أبنائها من مختلف الديانات كما كانت قبل مؤامرة 1907 ثم وعد بلفور لاحقا.
قد يقول كثيرون إن مثل هذا الحديث هو أقرب إلى التخريف منه إلى المنطق، لكنني أقول له إن هذه هي إرادة أصحاب الأرض تماما كما حدث في الجزائر بعد أزيد من 130 سنة من الاحتلال الفرنسي البغيض وتمسك المستعمر الفرنسي بالجزائر كأرض فرنسية خالصة، والحقيقة أن إرادة الحرية لدى الشعب الجزائري والثمن الباهظ الذي دفعه (أكثر من مليون ونصف المليون شهيد) ودعم بعض الأشقاء والقادة مثل جمال عبد الناصر للثورة الجزائرية كان كفيلا بإرغام الفرنسيين على العودة إلى بلادهم لتبقى الجائر حرة مستقلة شامخة.
لا يمكن للعواصم الغربية بكل قوتها وجبروتها ولا للرجعية العربية والإسلامية بكل تآمرها وخيانتها أن تفرض على الشعب الفلسطيني التخلي عن يافا وحيفا واللد والرملة وأسدود والنقب والجليل وغيرها، لأن هذه أرض فلسطينية خالصة وليست ملكية للأمم المتحدة ولا لبلفور ولا لواشنطن حتى تمنحها لمن يشاء، لذلك لا يمكن إيجاد حل قابل للبقاء إلا بإعادة اليهود الصهاينة إلى بلدانهم الأصلية وترك فلسطين لأهلها دون غيرهم.
لذلك أقول لشرفاء فلسطين مخلصا: اذهبوا انتم وربكم فقاتلوا إنا ها هنا «مطبعون".. متخاذلون وخونة، فلا تهتموا بنا ولا تلتفتوا إلينا فنحن جزء كبير من معاناتكم ونحن هم سبب هوان الأمة.
"وستذكرون ما أقول لكم"