هذا عنوان بالغ الأهمية، يشغل حيزا كبيرا من ثقافة مدائن التراث، وقليل ما هم من اشتغلوا بمثل هذا المجال الواسع. ويحضرني هنا أنني كنت كتبت موضوعا يلامسه، وسمته ب"حضور العلماء في مدينة شنقيط" نشرته مشكورة مجلة الثقافة الموريتانية التي تصدر عن وزارة الثقافة. وقد كانت مطالعتي في الموضوع قد زودتني بمعلومات نادرة لامست سقف تطور ثقافة بلاد شنقيط، وحددت معالمه، ضمن أطر تواصل العلماء من قضاة، وشعراء، وعلماء وغيرهم. وقبل أن نثبت دلالة ما نقوله بتواصل عالمين كبيرين ضمن بعث لبعض الرسائل، نقول بأن العلامة محمد صالح بن عبد الوهاب عالم ولاتة وقاضيها، قد عرفت له مشاركات في إنعاش الثقافة في مدينة تيشيت، وخاصة في الموضوع الشاسع والمعروف بالمداراة، ولا نفصل هنا، وكذلك قاضي شنقيط محمد الملقب سيدي باب بن الطالب محمد أحمد، فقد خرج من مدينة شنقيط، وسكن مدينة تيشيت، واشتغل بالقضاء فيها حتى توفي رحمه الله، وما أكثر أحكامه التي تمتلك مكتبات المدينة أكثرها، حيث مهرها بخطه الجميل.
وحتى لا نذهب بعيدا نعود إلى الأنموذج الذي واعدنا به في مطلع المقال، وهو رسالة من
الطالب أحمد بن طوير الجنة علامة مدينة وادان، إلى العلامة، والإمام انبوي بن الإمام المحجوبي، عالم ولاتة، فالسلام الأسنى والتحية الحسنى، دائمين على مر الليالي والأيام، لا ينفدان إلى يوم القيام، وكان اشتياق ابن طوير الجنة إلى أخيه انبوي موضع عرفان ينم عن أهمية التواصل بين العالمين، ويظهر من الرسالة أنهما كانا يريدان القيام بالحج في رفقة واحدة، وهذا يبين مدى الترابط بينهما، كما يبرز من الرسالة مطالعة الإمام انبوي لما يكتبه الطالب أحمد، فقد كان حديث العهد بتأليف رسالته المشهور ب" نفحة المنان في الرد على مبتدعة هذا الزمان" فما كان من انبوي إلا أن بعث يطلبها، وما كان من الطالب أحمد أن يتأخر عن الرد فبعثها فورا، وهذا تواصل ثقافي واستفادة كل عالم من أخيه وحتى لو بعدت الشقة بينهما. وحتى لا يضيع ذاك المؤلف بيَّن العلامة الطالب أحمد بأنه بعث الكتاب مع رجل مؤتمن قريب إلى أسرة آل طوير الجنة الكريمة.
ومما شكر به الطالب أحمد، وبين أثره البالغ عليه نظيره، العلامة انبوي تعريفه له على رجل صالح من قبيلة المحاجيب الكريمة، حيث قال: " فجزاك الله عنا خيرا في الدنيا والآخرة إذ عرفتنا بذلك الولي المحجوبي المشهور جدا بتاردانت".
وختم رسالته بالدعاء الصالح وعدم نسيانهم منه فقال:" ونحن لا ننساكما من صالح الدعاء، وأنتما كونوا معنا، فنحن معكما. والسلام يعود كما يبدأ.
إن هذا النوع من الترسل يعتبر بالغ الأهمية في ربط ثقافة بلاد شنقيط، بعضها ببعض، وهو مصدر من مصادرها التي لا غنى عنه، ولا تكاد تخلو مكتبة من مكتبات مدائن التراث من رسالة لهذا العالم أو ذاك، فإخراجه وتدوينه وتحقيقه أمانة في رقاب مثقفي هذا البلد وممن يشتغلون بمخطوطاتها وما تضمه تلك المخطوطات من هذه الرسائل النادرة، التي تكتب ماضي هذه الأمة وحاضرها، هذا ملمح من ملامح بلاد شنقيط التي يجب أن تسجل ضمن فعاليات انوكشوط عاصمة للثقافة.
ومهما يكن من أمر فنحن المغرمون بالترات العربي والإسلامي وخاصة ما له علاقة بتراث بلاد شنقيط، سنبذل الغالي والنفيس من أجل التعريف به داخل الوطن وخارجه، متكلين على كل ما قد تصل إليه آيادينا من مصادر قد يتحفنا بها بعض المهتمين بهذا المشغل الواسع.