أغلب المؤشرات و الدلائل توحي بضعف ثقة المواطن الموريتاني في الأطر الذي تتسمى بقوالب تسعى إلي تنظيمه و توجيهه و تهذيبه و إلي الدفاع عن حقوقه، كما تتصف بالعمل على ترقيته و بنائه وفق معيارية التحضر وبمقاييس "العصرنة" من دون المساس بجوهر كيانه الذي شابته في الصميم صروف الانحراف و مالت به الأهواء عن جادة صواب المعتقد إلى حيز الممارسات المتناقضة مع تعاليمه المبينة بقوة نصوص قرآنه و تأويلات سنته الغراء.
لا الأحزاب السياسية بما تنبني عليه من خطابات ضعيفة المحتوى في معظمها، و غياب البعد الفلسفي في مقاصدها و أحادية التوجه في نهجها المنحسر جله في شهوة السلطة؛ و لا المنظمات الحقوقية بما ترتفع به أصواتها و تنضح من رسائل و نداءات لا تؤمن - في المنهجية المتبعة لديها - بالنظام "ضرورة قصوى لكيان الدولة و استقرارها" دون الحكام على ارتيابها فيهم، و للوصول إلى مشتهي الحكم إن شكل رغبة لديها، و لا تعير للسلم الأهلي كبير اهتمام علما بإدراكها الجلي لوهن النسيج و ضعف المرتكزات؛ و لا النقابات بهشاشة أرضيتها و غياب "المتكئ النضالي" الأصيل و "النصوصي" الرصين لديها و اختلاف توجهاتها المطعمة و الملونة و الملغمة بمادة السياسة "التيارية" أو "المدارية" إن جاز التعبير،
لا تقنع، كلها، على أرض الواقع بالممارسة الصحيحة و الحجج المتأنية المقنعة التي تستقي من قوتها و لعزتها ما يكرس حضورها المسرحي البارز و الثابت على أرضية صلبة تبعد شبح الإحباط المخيم و تبعث في كل الآفاق بوارق الأمل لإصلاح "ذات بين" أخذت تذروه رياح الخلافات التي تكمن كل خطورتها في غياب الأسباب الموضوعية لها، إذ كيف بالبحث عن حل ما لا تدرك أسبابه.
فإن جئنا إلى التشكيلات السياسية بوصفها العمود الفقري لأية ديمقراطية يراد لها أن تكون بناءة، فإن أول ما يصدم المواطن هو ذلك "الترحال" الذي يبدد القناعات و يسلط الأضواء الكاشفة على هشاشة المبدئية و كأن حقل السياسة منتجع يرعى من يشاء في أي مكان منه معشب. و ليست ظاهرة الترحال هذه بالحالة المنفردة بذاتها بل إنها تنطوي على ما هو أخطر حيث تحمل:
- بذور مقوضات الدولة الحديثة و مجهضات تماسك النسيج المجتمعي، من انتماء قبلي ضيق و إن اتسع فليشمل فقط دائرة التحالفات القبلية المتغيرة بتغير المصالح المرحلية،
- و من تضخم الذات و استكبار جاهلي يضيق الخناق على فرضيات التشاور و المعيارية الصحيحة للزعامة،
- و من إفشاء روح المجاملة التي تفرغ الخطاب الحزبي من قيم الصرامة و الصراحة و النقد البناء و ترسخ بدلا عنها عقلية "المجاملة" و "المحاصصة" و تكرس عوامل الاسترخاء بعيدا عن روح التضحية و الانمحاء - كالشمعة التي تحترق لتضيء الآخرين - طواعية و نكرانا للذات وراء قيم الدولة المكينة.
و إن نزلنا إلى مسرح النضال عن حقوق المهمشين و المستضعفين من شرائح ظلمها التقسيم الطبقي الذي كان قائما لأسباب أو لأخرى - وحدها المراجعة التاريخية الموضوعية تستطيع كشف حيثياتها و خلفياتها في البحث إذ ذاك عن توازنات صيرورة البقاء في خضم حركة الزمن الأزلية - و هي الشرائح التي ألصقت بها أسباب الضعف و الغبن و الارتكاس، لا بد عندها من الوقوف على الاختلالات الصارخة في طرح قيام هذه النضالات و اختيار الوسائل التي تتطلبها حتى تثمر في انسجام ضروري مع روح الإبقاء على الوطن وعاء الجميع و مصدر بقائه و عيشه و فخره و اعتزازه. و لنا في دولة الزعيم الخالد نيلسون مانديلا جنوب إفريقيا أسوة حسنة على الرغم من بشاعة الفصل العنصري (الأبرتايد) الذي لم يشهد له العالم مثيلا في كل تاريخ الإنسانية، و ها هي ذي دولته بعد النعتاق تعيش على وقع تحول هائل في عقلية التعايش السلمي و تضرب أبلغ الأمثال و أجلها في الصفح و تجاوز زلات التاريخ مهما كانت بشعة و مؤلمة. و ليس ما يشوب هذه النضالات المشروعة من أجل أفق عادل و متوازن بمعزل عن حالة ضعف الوعي و العمل ببعض مقتضيات العقليات التي ما زالت تنبض بإرث الماضي الطبقي و غياب الدولة المركزية.
و إن عرجنا على القوالب النقابية التي لا تقل شأنا عن الأحزاب ولا عن القوالب الحقوقية، وإن في حقلها المميز و المتقدم في ميدان الدفاع عن حقوق طبقة العمال بناة الوطن، فإن أعدادها الهائلة تكشف النقاب عن "غرضية التأسيس" المرتبطة بالأهداف الذاتية أو السياسية أو مجتمعة. و هي كما هي بهذه الوضعية لا تقل شأنا عن القوالب و الأطر التنظيمية الأخرى، إذ تشكل مرتعا خصبا "للترحال النقابي" تضمخه الأهواء و الأطماع و بعض نبض قناعات خفية ملازمة.
ما زالت هذه الوضعية تربك، منذ أزيد من نصف قرن على نيل الدولة استقلالها، الشعب الموريتاني بكل مكوناته و شرائحه؛ وضعية يختلط فيها، من ناحية، حابل رغبة نخبها في قيام دولة المؤسسات و الأطر الحزبية و النقابات و منظمات المجتمع المدني الحقوقية و التنموية و غيرها، و نزوع هذه النخب، من ناحية أخرى، إلى الإبقاء على لغة الأهواء و القوالب القديمة المكرسة للتراتبية و الانتقائية والإقصاء والحيف بأشكال و أنماط جديدة و تحت مسميات مبتكرة. و هي الوضعية أخيرا التي تفت في عضد الشعب و تقتل لديه إرادة التحدي و إسقاط "الطواطم" التي تنصب أنفسها و تسحب من تحته بساط مطالبه الشرعية و توقه إلى تفيء ظلال دولة القانون و كرامة الإنسان.