الرق نظام اقتصادي واجتماعي قديم قدم البشرية ،فقد كان العبيد يباعون بأسواق النخاسة أو يشترون في تجارة الرقيق بعد اختطافهم من مواطنهم أويهدي بهم مالكوهم. وممارسة العبودية ترجع لأزمان ما قبل التاريخ في مصر خاصة عندما تطورت الزراعة بشكل متنامٍ ،
فكانت الحاجة ماسة للأيدي العاملة. فلجأت المجتمعات البدائية للعبيد لتأدية أعمال تخصصية بها.لكن ممارسة الإسترقاق أصبحت اليوم عائقا سيكولوجيا وخطرا استيراتيجيا لابد لنخبتنا السياسية من الوعي بتجلياته ومخاطره فماهي الأبعاد النفسية لظاهرة الرق في موريتانيا؟
حري بنا أن نتذكر أن العبودية كانت متفشية في الحضارات القديمة لدواعٍ اقتصادية واجتماعية. لهذا كانت حضارات الصين وبلاد الرافدين والهند تستعمل العبيد في الخدمة المنزلية أو العسكرية والإنشائية والبنائية الشاقة. لدرجة أن مدينة أثينا رغم ديمقراطيتها كان معظم سكانها من العبيد وهذاما يتضح من كتابات هوميروس الإلياذة والأوديسيا .
وفي القرن 15 (مارس الأوربيون تجارة العبيد الأفارقة وكانوا يرسلونهم قسرا للعالم الجديد ليفلحوا الضياع الأمريكية. وفي العام 1444م كان البرتغاليون يمارسون النخاسة ويرسلون للبرتغال سنويا ما بين 700 – 800 عبد من مراكز تجميع العبيد علي الساحل الغربي لأفريقيا وكانوا يخطفون من بين ذويهم في أواسط أفريقيا. وفي القرن 16 مارست إسبانيا تجارة العبيد التي كانت تدفع بهم قسرا من أفريقيا لمستعمراتها في المناطق الاستوائية بأمريكا اللاتينية ليعملوا في الزراعة بالتسخير. وفي منتصف ذلك القرن دخلت إنجلترا حلبة تجارة العبيد في منافسة القوي الأخري وادعت حق إمداد المستعمرات الأسبانية بالعبيد وتلاها في هذا المضمار البرتغال وفرنسا وهولندا والدنمارك. ودخلت معهم المستعمرات الأمريكية في هذه التجارة اللا إنسانية. فوصلت أمريكا الشمالية أول جحافل العبيد الأقارقة عام 1619م. جلبتهم السفن الهولندية وأوكل إليهم الخدمة الشاقة بالمستعمرات الإنجليزية بالعالم الجديد.) ومع التوسع الزراعي في أمريكا في منتصف القرن 17 زادت أعدادهم. ولاسيما في الجنوب الأمريكي. وبعد الثورة الأمريكية أصبح للعبيد بعض الحقوق المدنية المحدودة. وفي عام 1792كانت الدنمارك أول دولة أوربية تلغي تجارة الرق وتبعتها بريطانيا وأمريكا بعد عدة سنوات. وفي مؤتمر افينا عام 1814عقدت كل الدول الأوربية معاهدة منع تجارة العبيد. وعقدت بريطانيا بعدها معاهدة ثنائية مع الولايات المتحدة الأمريكية عام 1848م لقمع هذه التجارة. بعدها كانت القوات البحرية الفرنسية والبريطانية تطارد سفن المهربين ، وحررت فرنسا عبيدها وحذت حذوها هولندا وتبعتها جمهوريات جنوب أمريكا ماعدا البرازيل حيث ظلت العبودية بها حتى عام 1888م. وكان العبيد في مطلع القرن التاسع عشر يتمركزون في معظمهم بولايات الجنوب بالولايات المتحدة الأمريكية. لكنه و بعد إعلان الاستقلال الأمريكي أعتبرت العبودية شراً لا يتفق مع روح مبادئ الاستقلال. ونص الدستور الأمريكي علي إلغاء العبودية عام 1865م . وفي عام 1906م ، عقدت عصبة الأمم مؤتمر العبودية الدولي حيث تقرر منع تجارة العبيد وإلغاء العبودية بشتى أشكالها. وتأكدت هذه القرارات بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وبالنسبة لنا في موريتانيا فإن الطابع الطبقي للمجتمع الموريتاني التقليدي، ساعد على وجود هذه الظاهرة، خصوصا وأنه كان يتبع توزيعا طبقيا وظيفيا، حيث أسندت لكل طبقة وظيفة تقوم بها، ويأتي العبيد في أدنى دراجات السلّـم الاجتماعي لهذه الطبقات تتساوي في ذلك ( الأغلبية العربية والأقلية الزنجية ) ويجمع الباحثون علي أن أصول هذه الظاهرة في بلادنا ترجع (في الأغلب)إلى الحروب، التي كانت تنشب بين القبائل خلال القرون الماضية، حيث كانت القبيلة المنتصرة تبسِـط سيطرتها على تلك المهزومة، وكذلك الغارات المتبادلة بين القبائل تسفر هي الأخري عن سبي أناس وانتزاعهم من ذويهم من أجل استرقاقهم، كما شكّـلت التجارة عبر الصحراء مصدرا لهذه الظاهرة،حيث كانت تتم مقايضة العبيد بالملح والصمغ والقماش في بلاد السودان.
والسؤال الذي يطرح نفسه بعد محاولة التأريخ لهذه الظاهرة المتخلفة ثقافيا وإنسانيا هو: ماموقف الإسلام منها ؟ وكيف جري التعامل معها من منظور إسلامي؟
كان من أولويات الإسلام في القرن السابع الميلادي معالجة الرق والعبودية بشكل مباشر حيث دعى إلى تحرير العبيد وشجع عليه وجعله من القربات إلى الله سبحانه وتعالي. ودعى رسول الإسلام محمد صلي الله عليه وسلم إلى حسن معاملة الأسرى والعبيد والرفق بهم حتى أنه نهى عن تسميتهم بلفظ "العبيد" كما قال: «لا يقل أحدكم عبدي؛ أمتي، كلكم عبيد الله، وكل نسائكم إماء الله، وليقل: غلامي، جاريتي، وفتاي، وفتاتي)
لكن استخدامات دخيلة علي الإسلام في بيئات كثيرة ومنها بيئتنا المحلية شهدت تحريفا واضحا لنصوص الدين وتوظيفات خاطئة لمفهوم العبودية وتطبيقاته في الإسلام.
وعلي مستوي الدولة الموريتانية الحديثة رغم أنها ألقت الرق في العام 1981، إلا أنه لا تزال توجد حالات عبودية في هذه البلاد المترامية الأطراف وقد استحدث قانون جديد ينصّ على عقوبات صارمة في هذا المجال ضد ممارسي العبودية والمتسترين والمتواطئين معهم ،. ويقترح مشروع القانون الجديد عقوبات سجن تصل إلى 10 سنوات نافذة ويحظر "التلفظ علنا بعبارات مسيئة تجاه شخص يعتبر من الرقيق". لكن الأهم من ذلك كله هو وجود آليات، من شأنها أن تضمَـن تطبيق القانون وإرادة سياسية جادّة في تعميم القانون وإشاعته، وهو مالم يتحقق بعد.
إن مسألة العبودية أصبحت اليوم معضلة سيكولوجية عميقة في الوجدان واللاشعور البشري، فبالإضافة إلي الشعور بالألم والمرارة المكبوتين في أعماق النفس لكل من ينحدر من هذه الفئة الكريمة ،يوجد شعور بالذنب وامتعاض طبيعي عند كل إنسان أستشعر في لحظة وعي تام صعوبة المعاناة وجسامة الممارسة اللا إنسانية التي مورست في حق هؤلاء البشر .
إن المواطن الواعي والملتزم بقيم دينه الإسلامي لا يمكن أن يتستر علي واقع فاسد وممارسات عفنة وتقاليد بائدة ، وليس من حق قادة الرأي و الفكر أن ينكروا وجود الظاهرة في أي مستوي من مستويات ممارستها .
ليس مهما أن نتحدث طويلا عن أسبابها ومن يتحمل المسؤولية أكثر من غيره فيها لأنه نقاش عقيم لا يفضي إلي نتيجة ذات قيمة في معالجة القضية ،ولو كان ذلك النقاش مجديا لما رأينا الغربيين (وهم أول المدانين في ملف الإسترقاق والعبودية البشعة). يتجاوزون عتبات النهوض المجتمعي ويقودون ثورة تنموية وعلمية هائلة.إن العوائق النفسية لن تزول بين عشية وضحاها وهي موجودة في لاشعور الغربيين والأمم كافة أكثر مما هي موجود لدينا، لكن الجهل بها أعظم لدينا منهم . إن المسألة متعلقة بوعي مجتمعي وسياسي جديد يؤسس لدولة القانون والمجتمع الإسلامي المحصن بعقيد التوحيد التي يتساوي فيها الأبيض والأسود والغني والفقير . إن الثقافة التي تكرس الإسترقاق حاضرة في لا وعينا وسلوكنا الإجتماعي بدرجات متفاوتة ،صحيح أننا عندما ندخل المسجد نصلي صفا واحدا لا تفاضل فيه وأن الإمام يوجه خطابا شاملا لاتمييز فيه ، لكنه صحيح أيضا أن اختبارا بسيطا لمستوي التجرد من الكبرياء والعواطف التمييزية كفيل بإكتشاف توغل العادات والثقافة في وعينا وممارستنا .
لا أقصد أن الأمور بصرامة القانون يجب أن تنقلب بشكل فجائي وسريع إلي حيث تختفي جميع مظاهر التمييز لأن طبيعة الفطرة البشرية ترفض ذلك وتأباه و لاتنطاع إلا للتدرج وهو السنة الإلهئية التي جعلت الإسلام يقضي وبشكل نهائي وناجح علي جميع أشكال التمييز في كثير من المجتمعات الإسلامية فمالذي يمنعنا إذا من الإسترشاد بهدي الإسلام؟
هناك من يحمل بعض الفقهاء مسؤولية تحريف الأحكام وترسيخ ثقافة الإسترقاق ، لكنني لن أناقش الأمر لأنه متروك لصفوة العلماء ونخبتهم من أمثال محمد الحسن ولد الددو (شفاه الله وعافاه) والشيخ محمد ولد سيد يحي ( أعانه الله ) .وما أقوله هو أن للعلماء دور كبير في شرح مسالة الإسترقاق وثقافته والتي هي اليوم أخطر من ممارسة الإسترقاق نفسه وواضح أن منهج الدعوة الذي يتبعه ولد سيد يحي في مساجد العاصمة سوف يساهم في محاربة تلك الثقافة والتقليل من تأثيراتها في المستقبل.
لكن للساسة وقادة الرأي دورهم في تحرير المنظومة الشعبية من المفاهيم المترسبة في أعماق ثقافة البيظان والفولان والصونكي والولوف .
إننا نطمح إلي وعي سياسي يترجم ثقافة المواطنة ويجسد قيم الإسلام الحقيقية في التعامل البيني والتضامن البناء بمناصرة المظلوم علي ظالمه مهما كان أخ لنا أو قريب أو صديق
مطالبون بتنمية الإنفتاح الطوعي بين الشرائح الإجتماعية والتمازج العرقي والتآلف الأخوي والتشجيع العاطفي والرمزي لقيم العمل الحرفي .
ولا تزال الفنون الشعبية تزخر بثقافة الإسترقاق وتكرس شعورا متخلفا وتنميه في لاشعور الأفراد وهي أمور خطيرة ينبغي الحذر من مواصلتها وتشجيع ولادة جديدة لفن ملتزم ومنسجم مع الخصوصيات الشعبية ومناصر لقيم التقدم والموروث الإسلامي الذي ينبذ بشدة تلك الممارسات الفنية المنحرفة والضارة جدا.
هناك عنصر أخير في معادلة سيكولوجيا الإسترقاق يتعلق بالتوظيف السياسي الإسترزاقي ، والذي ينحرف إليه بعض المثقفين نتيجة طموح ذاتي لجني مكاسب شخصية ، وتشجعهم عليه دوائر خارجية حاقدة علي المجتمع والدولة ، وهؤولاء قلة(ولله الحمد) ،لكن حججهم تصبح واهية وطريقهم مسدود إذا تضافرت جهود القادة المصلحين وألتقت إرادات الخيرين حول فهم موحد لخطورة ثقافة الإسترقاق وضرورة محاصرتها وتنقية الموروث الإجتماعي منها وبناء اسيراتيجية جادة للقضاء علي جميع ممارسات العبودية والإسترقاق بدل إنكار وجودها، لأن وجود أي مستوي من مستويات ممارستها يعني وجودها بالفعل، وقطعا فإن ثقافة الإسترقاق لاتزال دفينة في أعماف أعماق لاشعور أفراد مجتمعنا ، وتنفلت منا في شكل تصرفات عابرة أو دائمة المهم أنها ثقافة خطيرة ولابد من العمل علي نبذها ومواجهتها في جميع معاقلها وعدم ترك المسألة للمزايدات السياسية أو الإستهتار القيمي والتمرد الشخصي .
الحاج ولد المصطفي