يُجمع المدافعون عن الأمير القطري السابق على أنه قد قدَّم لبلده ولأمته من الانجازات ما لم يقدمه أي رئيس عربي آخر. وبالتأكيد فإن المدافعين عن الأمير السابق لن تنقصهم الأدلة والحجج النوعية التي تؤكد بأن
الأمير قد شكل فعلا رقما صعبا في المنطقة، بل وفي العالم كله. فيكفي هذا الأمير المثير بأن في صحيفته من الانجازات النوعية الشيء الكثير، ولو أخذنا انجازا واحدا من تلك الانجازات، ووزعناه على أمراء وملوك المنطقة، وأعطينا لكل منهم نصيبا بسيطا من ذلك الانجاز، لرفعهم ذلك الجزء البسيط مكانا عليا.
ويكفي هذا الأمير المثير بأنه هو من أوصل إمارة قطر الصغيرة إلى مصاف الدول الكبرى من حيث المؤشرات التنموية، ومن حيث الحضور والتأثير في المنطقة، وأنه هو من جاء بقناة الجزيرة في النصف الثاني من عقد التسعينيات، وأنه هو من استضاف في إمارته العلامة القرضاوي، وأنه هو من توسط في نزاعات عربية وإسلامية عديدة، وأنه هو من وقف مع حركات المقاومة في المنطقة : حماس وحزب الله، وأنه هو من دعم ثورات الشعوب العربية ضد المستبدين العرب.
أما خصوم الأمير المثير فإنهم يستخدمون الأدلة نفسها لإثبات أن الأمير كان شرا مستطيرا، وبأنه هو من جلب الدمار والخراب إلى المنطقة العربية، بقناة الجزيرة، وباستضافة العلامة القرضاوي والسماح له بإصدار البيانات، وبدعم ثورات خُطط لها أمريكيا وصهيونيا، وبعلاقة قوية ومشبوهة بأمريكا، وبقاعدة السيلية، وبأشياء أخرى كثيرة، لا يتسع المقام لبسطها، ولا حتى لتعدادها.
بل إن خصوم الأمير، ومن شدة بغضهم له، كادوا أن يخرجوه من طينة البشر، وذلك بعدما ما منحوه قدرة عجيبة وخارقة لم يمتلكها بشرُ قبله، ولم تمتلكها كذلك أي دولة ولا أي إمبراطورية من قبل إمارة قطر الصغيرة.
فحسب بعض خصوم الأمير فإن الإمارة الصغيرة هي التي تحمي أمريكا من الانهيار.أما أميرها المثير فهو الشخص الوحيد في هذا العالم الذي يمكنه أن يًشعل ثورة في دقائق معدودة في أي بلد لا يعجبه رئيسه. وهو الذي يستطيع، تبعا لتقلب مزاجه، أن يحدث فتنة لا تبقي ولا تذر، في أي دولة عربية خلال ساعات فقط. وهو فوق ذلك كله، هو من خلق دجال العصر، أي قناة الجزيرة التي خدعت الجميع، عربا وعجما، فأمريكا تعتبرها ناطقا رسميا باسم أعدائها. في حين أن أعداء أمريكا يعتبرونها ناطقا رسميا باسم أمريكا وحلفائها في المنطقة.
وحتى أثناء تخلي الأمير المثير عن السلطة، وتسليمها طواعية لابنه، فلم يسلم من انتقادات خصومه، والذين تحدثوا عن أسباب خفية هي التي أجبرت الأمير على ترك السلطة. وقد حصر خصوم الأمير تلك الأسباب في ثلاثة:
أولها: أن الأمير يعاني من أمراض خطيرة أصبحت تمنعه من مواصلة الحكم، ولذلك فقد تخلى عن الحكم لا زهدا فيه، وإنما بسبب تلك الأمراض. وحتى وإن صح مرض الأمير، فإن ذلك لن يقلل من أهمية تنازله عن الحكم، وذلك لأننا لم نسمع من قبله عن أي رئيس، أو عن أي أمير، أو عن أي ملك عربي تنازل عن السلطة حتى أثناء الغرغرة، فكل من مات منهم حتى الآن، وكثيرا ما يعمرون، فقد مات وهو متمسك بالسلطة، وربما كانت آخر كلمة تلفظ بها هي لا رئيس إلا أنا، لا أمير إلا أنا، لا ملك إلا أنا.
ثانيها: أن هناك جهات خارجية قوية قد أرغمت الأمير على التنازل، ولو صح هذا فإن الأمير أيضا سيشكل استثناءً في المنطقة، وذلك لأنه ليس من عادة الرؤساء ولا الأمراء ولا الملوك العرب أن يستجيبوا للضغوط الخارجية عندما يتعلق الأمر بمطالبتهم بترك السلطة. ولكن من عادتهم أن يسارعوا للاستجابة لتلك الضغوط عندما يتعلق الأمر بالتنازل عن مصالح دولهم، وعن كرامة شعوبهم، والأمثلة على ذلك كثيرة جدا، ومن تاريخنا القريب جدا جدا.
فإذا كان لابد من الاستجابة للضغوط الخارجية، فمن الأفضل الاستجابة لتلك الضغوط التي تُطالب بالتنازل عن السلطة مقابل الاحتفاظ بسلامة الدولة، من الاستجابة لتلك الضغوط التي تطالب بخراب الدولة مقابل الاحتفاظ بالكرسي.
ثالثها: أن الأمير تنازل عن الحكم خوفا من انقلاب قادم لا محالة، سيقوده الابن ضد الأب، كما قاد الأب انقلابا ضد الجد.
أيضا هنا كان الأمير حكيما، عندما تفادى ذلك الانقلاب القادم قبل وقوعه، بل وشكل بذلك استثناءً في المنطقة. فربما يكون الأمير، ولرجاحة عقله، قد قال: فمادام الانقلاب حتميا، فَلِم لا أترك السلطة طواعية، وذلك حتى لا أتسبب في مواجهة بيني وبين المنقلبين ستنعكس نتائجها سلبا على بلدي؟
وإذا كانت الثورة قادمة لا محالة، فَلِم لا أترك السلطة حتى أحمي بلدي من الفتن التي قد تتسبب فيها ثورة لم يعد بمقدار أي كان أن يقف في وجهها؟
فلو فكر رؤساء وملوك العرب بطريقة الأمير لكان حال أمتنا مختلفا، ولو أن أولئك قبلوا بأن يتنازلوا عن السلطة خوفا من انقلاب قادم لا محالة، أو خوفا من ثورة اكتملت علاماتها الكبرى من قبل الصغرى، أو لأن قدراتهم الصحية لم تعد تسمح لهم بقيادة شعوبهم، فلو أنهم قبلوا أن يتنازلوا عن السلطة، لأي سبب من تلك الأسباب، لما أخْرج القذافي من حفرة بعد أربعة عقود من الحكم، ولما هرب بن علي إلى آخر بلد كان يفكر في الإقامة به، ولما انتهى المقام بحسنى مبارك وبعائلته في السجن، ولما كان حال سوريا هو حالها اليوم.
فيا خصوم الأمير، قولوا ما شئتم عن أمير قطر السابق، ولكن عليكم أن تعترفوا له ـ على الأقل ـ بهذه: إن تخلي الأمير طواعية عن الحكم، وهو حي يرزق، قد شكل سابقة من نوعها في منطقة من العالم عُرفت بتشبث سلاطينها بالكرسي، ذلك الكرسي الذي لا يتركونه أبدا، حتى لأقرب مقربيهم، إلا بموت يُجهز عليهم، أو بانقلاب يذلهم ويخزيهم، أو بثورة تشردهم وتخرجهم من قصورهم مذمومين مدحورين إلى منفى، أو إلى سجن، أو إلى حفرة لا يرضى ضب الكدى باللجوء إليها.
حفظ الله موريتانيا..