ست ممن يضيّعون البحر ليحتفظوا بالمجداف.. ولا ممن يشعلون الحرائق ليستأجر "جانبهم الإطفائي"، ولا أنا من "المزايدين" في البهو الخلفي لأسواق عكاظ، فثمن القصيدة هو الفضيحة.. وذهب الدنيا كلها لا يعادل صمتي.. فصمتي لا أحد يشتريه.. لا بالذهب ولا بالخشب ولا العنب ولا مسببات التعب..
أعرف حجمي تماما بصفتي شاعر من الدرجة المليون تحت الصفر.. وأدرك أن الهلامية الاجتماعية لم تمنحني مساحة للحراك.. فأنا ابن الزير سالم ولا أصالح على الماء فكيف بالدم.. لكنني أمقت برجوازية القبيلة، ولا أرى أن تسرح الناقة أو "تبيض" من أجل كرامة معكوسة المقاييس..
يحلو لي – في هذه الفترة البرزخية حقا من تاريخنا الأحفوري– أن ألعب دور الحكواتي.. فلا بأس بالحكايات، وإن كانت لدي الوثائق والشهود، وربما الفضائح، إن تطلب الأمر،..... فكل دليل بات قابلا للتزوير.
إن مهندسي الحدائق يمكنهم التحكم في توجيه النبتة مع بزوغها عبر إسنادها بدعامات تحدد الوجهة وربما الشكل.. لكن في الحالة الوطنية الموريتانية كبرت "الشجرة" وشاخت في وجهة الفناء المحتوم.. صحيح أن الجذور والأغصان لا تتجه أبدا إلا متعاكسة.. فالجذور إلى الأسفل لتصل نسغ الحياة.. والأغصان إلى الأعلى رافعة "الثمار".. وبهذا وحده تحيى الشجرة وتورق وتثمر..
لكن في الحالة الوطنية تبدو الأمور أغرب من "مقاربة نباتية".. فالجذور هنا لا تمتص نسغ الحياة، إنما تتغذى على فحيح الموت الحضاري السريع.. وهكذا فإن الأغصان تتحول إلى حالة كأن طلعها رؤوسها الشياطين.
أهم مغيب في تاريخ الدولة الموريتانية هو الحقيقة، فالشعب الموريتاني أحد أقل شعوب العالم إدراكا لحقيقته وحقيقة "دولته"..
أريد منكم الآن أن تصدقوا ولو مرة واحدة، أن الشعراء مجانين.. ذلك من أجل أن تقرأوا هذه "التنبؤات" بهدوء بال، ويمكنكم بعدها أن ترخوا سروايلكم وتنامون بارتياح بال في انتظار خارطة جديدة للوطن وعلم ونشيد ودولتي جوار – على أحسن تقدير– لا قدر الله..
دعونا نبدأ من حيث يبدو، وكأنه "لا يهم".. فعندما تشاهدون رجالا رزينين يترأسون حفل أطر "العرب السمر" (الحراطين) وهم يحشدون من أجل وثيقة إنهاء العبودية في موريتانيا، بل وإعادة تأسيس الجمهورية (لتوسيع ثقوبها الشرائحية والعرقية)، وترون رجالا عقلاء، بلغوا سن المشيب، وهم يكيلون الشتائم للعلماء ولكتب الفقه الإسلامي ولشريحة من أبنائهم ومن صلب ذواتهم، ويتحدثون عن أسواق نخاسة يباع فيها آلاف العبيد ويشترون، وعن مصانع الغلال والأغلال التي تكبل "العبيد".. مصرين على خلق أسطورة "محرقة"، ولو في الواقع الافتراضي،.. ثم ترونهم ينظرون إلى "الدولة" آخذين بالميليمتر مساحة التوظيف على أساس اللون والشريحة..
عندما تشاهدون الدولة لا تعيّـن عربيا أسمر واحدا إلا على أساس أنه معين للشريحة، وليس لموريتانيا وللمجتمع الموريتاني، ثم تفتح بنكا جديدا اسمه "وكالة التضامن" لشراء ذمم خفاري حقوق الإنسان أو نخاسيه.. فتتحول القضية النبيلة إلى مصدر دخل وتفرقة.
وعندما تشاهدون "البيظان" البيض (مجازا)" يتحدث عن انحسار المد السلطوي للشريحة "المقدسة"، وضرورة مواجهة الوضع بخطة استثنائية سريعة وبسيطة لا يمكن أن تنتجها إلا عبقرية "رجل الصحراء".
وعندما تعلمون أن جارينا الشقيقين يتأهبان بأموالها وخططها.. أحدهما لتصريف "عرب الصحراء" الغربية إلى ملاذ جديد، والآخر العملاق الجزائري الذي "لا بـدّ" أن يجد منفذا للأطلسي.. ولا يحول بينه وبين الأطلسي بكل "زرقته" و"اخضراره" و"جواره" من أوروبا إلى أمريكا فإفريقيا، إلا "حي من البداة الموريتانيين"..
وعندما تعلمون أن "التيار البربري"، و"التسونامي الأمازيغي".. استيقظ في المغرب العربي بفعل "تدليك" الكيان الصهيوني.. وأن "قبائل" وجهات موريتانية بمؤطريها ومفكريها وموجهيها من "الاستخبارات المجاورة"، تغذي هذا التيار، الذي ابتدع لأول مرة مفهوم "عرقية الحراطين" للتخلص من عروبة البلد وتماسك أغلبيته، ولتسهيل إقناع "الشريحة المقدسة" باجتراح وطن على المقاس.
عندما تعلمون أن جهات دولية صممت خريطة التقسيم، وأبلغتها لشخصيات موريتانية في "مناسبات" ما.. وأن جدل تلك "الجهات"، في هذه الظرفية، ليس التوقيت والطريقة، وإنما "عدد الدويلات".. اثنتان أم ثلاث أم أكثر.. وأن "دولة الشمال الغني" (بالحديد والذهب والنحاس والصيد البحري و"نفط تاودني" واليورانيوم و900 مؤشر منجمي)، تسيل لعاب قبائل ومستثمرين ومصممي خرائط، وشخصيات "مرجعية" ليست من النوع الانفعالي، ولا تريد مرة أخرى أن تواجه احتمالات "الرتق والفتق"..
عندما تعلمون ذلك أو لا تعلمون، تصبح الأمور كلها في "قاعة انتظار".. لقد انتهى كل شيء، واستنفدت النوايا الحسنة القليلة التي ما فتئت تنبه وتصرخ وتغمز.. إن نظرة إلى خلاصة الوضع الوطني كفيلة بإقناعنا أن الدّوار ليس الوسيلة الأحسن لضبط الاتجاه الصحيح..
إن موريتانيا في حالة "حرب أهلية مع إخفاء التنفيذ".. وما تمليه اليوم دوائر الشر من تقارير وشتائم على أصابع بعض أبنائنا.. ليس دخانا من دون نار... حتى ولو أخفيت "وثيقة الحرب" تحت مسمى وثيقة حقوقية..
لقد وصل "الشحن العنصري الشرائحي" حدا لم يعد أي سياسي يتحكم فيه.. هذه هي الحقيقة المؤسفة، والقادة والزعماء الذين يتحركون الآن على خشبة الأحداث، لا يمكن لأي منهم تعديل وجهة المصير المحتوم.. لأنهم يتحركون بفعل جاذبية "دوار" جيوبهم ومراجلهم، و"حلوة" عشيقاتهم.. ولأنهم فضلا عن سوء الحظ جزء من المشكل... وحتى لو أرادوا، فليست سدود قاماتهم المهترئة بقادرة على التأثير في طوفان الكره والبغض الذي باتت الشرائح والقبائل تشعر به إزاء بعضها البعض.. فضلا عن الانزلاقية المهولة للمخطط التآمري..
لقد تم تجاوز فترة محاولة استزراع "مرحلة الرعب"، والآن بدأت ردة الفعل العكسي.. إن خيوطها تتمايز لمن كان ينظر إلى المصلحة العليا لهذا الوطن المرتوق..
لقد انطلقت الرمية فما فائدة الانشغال بأخذ قياسات القوس...؟
لن يحدث أي شيء "أكثر" من أحداث ثم مواجهات ثم موت بضعة آلاف وتشريد أخرى.. ثم وقف إطلاق نار.. ثم "رحمة العالم".. وإِشرافه على استفتاء مقترح التقسيم، ثم حفلات الاستقلال وإقامة نصب الشهداء..
يمكن الآن لأي صحفي إعداد "خلفيات" الحدث، ووضع عناوين استباقية من قبيل.... "عاصمة جمهورية شنقيط"... "توقيع اتفاقية حسن جوار"...."انسحاب قوات الأمم المتحدة، ومباحثات بين "جمهوريات الرمال الجديدة" وبينها وبين الجزائر أو المغرب حول المناطق المتنازع عليها.
بالمناسبة قررت أن أكون مواطنا في "دولة الجنوب"..
وقبل ذلك أقسمت أن أبذل كل ما بوسعي كفرد في سبيل وحدة شعبي الواحد نسبا ودينا وقيما وحضارة.
إن البعض يتصور أننا سنكون طيبين مثل الشجرة تسمح للكل بتسلقها لقطع أغصانها واحدا تلو الآخر.. إن البعض يتوهم أننا سنسمح بتفريق العرب على أساس اللون.. دعوه فإنه يشرب من بئر الوهم.