هكذا عرفت الجزائر/ سيد محمد ولد لخليفه

 سيد محمد ولد لخليفهتحتفظ ذاكرة الموريتانيين للجزائر الشقيقة بالكثير من المواقف المشرفة، فبلاد المليون ونصف المليون شهيد كانت العون والسند للشعب الموريتاني حين كان في أمس الحاجة إلي أشقائه وجيرانه.

ورغم استقلال موريتانيا عامين قبل استقلال الجزائر إلا أن ذلك لم يمنع الجزائر في عهد الزعيم الراحل هواري بومدين من تحمل مسؤولياتها تجاه الشعب الموريتاني الذي كان يتربص به جيرانه الشماليون في تلك الفترة . وبما أن الرجال مواقف، فقد أحس عظماء الجزائر الخارجين لتوهم من حرب استنزاف طويلة مع المستعمر الفرنسي أن مصير موريتانيا مرهون بوقوفهم معها في هذا الوقت العصيب .فسخرت الجزائر كل جهودها وطاقاتها لهذا البلد الناشئ وعمدت في سبيل النهوض به إلي وضع اللمسات الأولي لأنظمته الإدارية والتعليمية والقضائية والاقتصادية وحتى الصحية.

وهنا استشهد بمقتطفات من مذكرات الرئيس الراحل المختار ولد داداه ففي الفصل ال16 من المذكرات المعنون "نحن والجزائر"، يقول الرئيس ولد داداه "إن العلاقات الموريتانية الجزائرية تطورت تطورا كبيرا بعد زيارتي للجزائر عام 1967 حيث نشط التنسيق الديبلوماسي بين البلدين على جميع المستويات الخارجية." وعلى الصعيد الداخلي يقول الرئيس ولد داداه"..تطور التعاون الموريتاني الجزائري بنشوة وحماس حتى سنة 1967 (...) بل إن الجزائر أعانتنا كثيرا".

ثم يتابع الرئيس "ما بين 1967 و1975 كونت الجزائر الكثير من الأطر العليا والمتوسطة المدنية والعسكرية وهذا ما يفسر أن أكبر جالية طلابية عندنا في الخارج كانت في الجزائر (..) وكانوا كلهم تقريبا ممنوحين من طرف الحكومة الجزائرية..وعلى الرغم من أن الجزائر كانت تعاني نقصا في الأساتذة والأطباء فإن ذلك لم يمنعها من إيثارنا ببعضهم فضلا عن البعثات الفنية وبعثات المساعدة الدائمة".

ويضيف الرئيس "ما كان لإنشاء العملة الوطنية والبنك المركزي ،في 1973م، أن يتحققا في الظروف الجيدة التي تما فيها لولا العون النفيس الذي قدمته لنا السلطات المصرفية الجزائرية ..وفي هذا المجال أثبتت السلطات الجزائرية كثيرا من التضامن والاستعداد والنجاعة".

وللجزائر الفضل في انتماء موريتانيا للجامعة العربية حيث يقول الرئيس الراحل "فيما يتعلق بانتماء موريتانيا للجامعة العربية نذكر للأمانة التاريخية ،أن السيد بومدين قام بالكثير من الجهود ليتم هذا الانتساب في أكثر الظروف علنية حيث حرص الرئيس بومدين خلال رئاسته للقمة العربية على الإعلان عن تبنى هذه العضوية في قمة الجزائر بدل أن تقبل هذه العضوية على مستوى أخفض أي على مستوى وزراء الخارجية وفقا للعادة المتبعة".

وبخصوص تأميم مناجم الحديد "ميفرما" الذي كان أكبر قرار سيادي تتخذها موريتانيا بعد الاستقلال يذكر الرئيس المختار ولد داداه في مذكراته أن الزعيم الجزائري هواري بومدين كان أول المطلعين على قرار التأميم حيث قدم له نصائح بالتروي خوفا من ردة الفعل الفرنسية.

وقال "إن الفرنسيين قادرون على القيام بأي شيء بما في ذلك الإطاحة بالنظام الوليد،إذا ما مست مصالحهم، مؤكدا أن الجزائر تضع كافة إمكانياتها تحت تصرف موريتانيا فيما إذا تعرضت لمضايقات فرنسية". ولم يستبعد المختار ولد داداه احتلال فرنسا لمدينتي ازويرات ونواذيبو وعلى الفور أكد له الرئيس بومدين أنه سيتخذ ما يلزم من الإجراءات الضرورية. وعندها تم الاتفاق على وضع وحدات من الجيش الجزائري في حالة تأهب يوم الإعلان عن قرار التأميم في الثامن والعشرين نوفمبر 1974م، وهي جاهزة للتدخل عند أول نداء للرئيس المختار ولد داداه.

وكان من المقرر أيضا أن يكون الرئيس بومدين موجودا في مدينة تندوف للإشراف المباشر على الأمور لكن لم يحدث في النهاية أي شيء؛ وقد علق الرئيس ولد داداه على هذا الموقف قائلا "لقد أبدت الجزائر استعدادا كبيرا ورغبة خالصة في مؤازرة موريتانيا ومساعدتها في وقت من أحرج الأوقات في نضالها من أجل التحرر، وكنا مدينين لها بذلك. انتهي الاستشهاد. كانت تلك مواقف لا تنسى للحكومة الجزائرية يسردها مؤسس الدولة الموريتانية الراحل المختار ولد داداه ولي مع شعب الجزائر ذكريات جميلة اسرد بعضا منها علي عجالة.

تعرفت علي الجزائريين عن قرب عام ،2003 حين وصلت إلي مدينة عنابة لمزوالة دراستي الجامعية، وأثناء تلك الفترة التي استمرت لسنوات زرت أكثر من عشر ولايات جزائرية،

وشيئا فشيئا بدأت أتعرف علي الشعب الجزائري الغني بثقافاته وتقاليده حيث تلمست فيه سخاء منقطع النظير وأنفة نفس لم أجدها عند غيره من الشعوب العربية. ورغم سرعة الغضب التي تذكر عن الجزائريين إلا أن من خالطهم يدرك أن تلك الصفة هي مجرد رفض للظلم وهي جينة تجري في دم كل جزائري أصيل .

ميزة أخرى تنضاف للجزائريين وهي أن بلدهم يسكن في وجدانهم، فبمجرد أن يستشعر الجزائري انك غريب في دياره وخاصة إذا ما كنت طالب علم لا يتردد في الإلحاح في تقديم المساعدة وقد يعتقد المرء للوهلة الأولى أن الحاجة مجرد مجاملة لكن الأمر يختلف لمن احتاج المساعدة في ارض الشهداء، فالجزائري لا يخذل قاصده حتى ولو منعته الفاقة أو هكذا عرفتهم .

هناك في مدينة "عنابة" الجميلة يوجد حانوتي يدعي "فوزي" في حي "شعيبة بسيد عمار" عرفته بشوشا كريما لم يتردد يوما في تلبية طلبات مئات الطلاب العرب المقيمين في الحي وخاصة الموريتانيين، كنا نعتبره والد الجميع فكرمه فاق الحدود وكنا نستدين منه حاجياتنا اليومية على مدى سنوات وسنوات، وكنا نقضي أشهرا دون أن نسدد ديوننا ورغم ذلك لم يطالبنا يوما بتسديد مستحقاته حتى انه كان يشطب ديون بعض الطلاب في مشهد نادر قل نظيره. حال التاجر العنابي كحال اغلب الجزائريين الذين التقيت بهم أو التقي بهم غيري من الموريتانيين فالجميع يحب تقديم المساعدة من موقعه.

وفي هذا المقام اذكر أني دخلت ذات يوم علي نائب رئيس جامعة عنابة لطرح مشكلة طالبة موريتانية سجلت بالخطأ في كلية الطب وتريد تغيير تخصصها إلى البيولجيا. ومع أني كنت أدرك أن حل المشكلة يتعلق بوزارة التعليم في الجزائر العاصمة وليس جامعة عنابة، إلا أنني عرضت مشكلة الطالبة على نائب رئيس الجامعة فرد علي أن المشكلة من اختصاص الوزارة، لكن بما أننا موريتانيين سيخصص وقتا من زيارته الشخصية التي قررها في وقت سابق للعاصمة لحل مشكلة الطالبة وهو ما حدث بالفعل، إنه جميل لن أنساه طول حياتي.

محبة الجزائر اليوم تسكن في كل بيت موريتاني فالجزائر على مدى العقود الماضية خرجت مئات الطلبة الموريتانيين في كل الاختصاصات، وأغلب الأطباء العاملين في مستشفياتنا اليوم درسوا في الجزائر، حالهم حال مئات المهندسين في شتى المجالات ومنهم الوزراء والأطر وقادة الرأي..

لكن مشكلة هؤلاء تكمن في انقطاع التواصل الكلي بينهم والدولة التي تخرجوا منها حيث يلاحظ غياب أي منبر للتواصل ففي الوقت الذي تحرص سفارات الدول العربية وحتى الغربية علي رعاية مصالحها في موريتانيا من خلال ربط صلاتها مع الخرجين من جامعات تلك الدول باعتبارهم صناع قرارا في المستقبل، نجد الأمر يختلف حين يتعلق الأمر بطلاب الجزائر. وقد حاولنا أكثر من مرة في تجمع خريجي الجامعات الجزائرية من الموريتانيين أن نخلق جسرا للتواصل مع أشقائنا الجزائريين، لكن في كل مرة نتعثر ورغم ذلك ستبقى أيادينا ممدودة لأناس نكن لهم كل محبة وعرفان.

28. يونيو 2013 - 21:11

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا