أثبت رئيس جمهورية مصر العربية الدكتور محمد مرسي بوقوفه الشامخ حماية للدور التاريخي الذي ساقته الأقدار للقيام به والشرعية الدستورية التي كلفته بها جموع الشعب المصري حصافة رأي جماعة الإخوان التي انتدبته من بين آلاف من القيادات المجربة والمحنكة التي تنتمي للجماعة لمهمة تاريخية بامتياز.
لكي نتبين ذلك علينا الانطلاق من مسلمة يغفلها التحليل السياسي بله التناول الإعلامي للمرحلة التي أعقبت ثورة الشعوب العربية بتصويرها مرحلة عادية تتطلب رؤساء عاديين وإدارة عادية والغفلة عن كون هذه المرحلة صفحة جديدة من تاريخ الكون تنفتح لها متطلباتها الخاصة وتوصيفها المختلف، وأهمه كونها مرحلة تحول تاريخي يحكمها تمازج من قوانين مرحلة الانحطاط وقوانين مرحلة الصعود. لقد عاشت الأمة التي تتمتع بأكبر مقومات الصعود الحضاري عقديا وتاريخيا وجغرافيا عقودا طويلة من الارتكاس الحضاري ولكنها ظلت في حالة ممانعة وتحفز لعوامل القوة في جسمها حتى استطاعت الخروج بقفزة مفاجئة من قمقم التخلف واقفة على حافة البركان ما وصلت نهائيا إلى بر السلامة ولم تعد كليا في مرحلة الخطر.
تكليف من التاريخ في هذا الظرف العصيب، وفي البلد القاطرة من هذه الأمة كان لزاما على الإخوان المسلمين الذين كانوا في الطليعة من قوى الرفض أيام الارتكاس أن يتصدروا لقيادة الأمة في مرحلة التحول هذه، وأن يواجهوا القوى التي يقول منطق التاريخ والسنن الكونية إنها ستسعى لإفشال هذا التحول من أعداء ومنافسي الخارج والمعتاشين من الفساد والمرجفين والمثبطين وغير الواعين في الداخل. هذه هي إذن المهمة التي على من سيكون رئيسا لمصر أن يقوم بها، وليست فقط مهمة عادية لرئيس عادي في ظروف عادية، والواضح أن هذه المهمة تتطلب صفات خاصة إجمالها في حيازة قدر كبير من التوازن بين صفتي الشدة واللين والحلم والصلابة، ولقد أثبت مرسي ببدايته في الحكم التي كان يوصف فيها بأنه "منزوع الدسم" ما يتحلى به من لين، وأثبت بموقفه الأخير وهو يواجه أصعب موقف يواجهه رئيس وحيدا فريدا إلا من اعتماده على الله ثم على مساعدين لا يبلغون نصف أصابع اليد الواحدة صلابته وشدته، كما أثبت نقد المخلصين وسباب الحاقدين اجتماع هذه الصفات فيه إذ أنه يتهم بالصفة وضدها في نفس الوقت. أما إدارته للدولة التي اقتحمها وهي تعاديه، أو تتوجس منه على الأقل، من أبسط موظف فيها إلى أعتى جنرالاتها فقد كانت شاهدة له بالحنكة الإدارية وطول النفس والصبر على أحلك الأزمات: ألم يقتطع دابر طغمة الطنطاوي في وقت افتعلت له فيه أزمة قتل الجنود في رفح ودبرت له محاولة اغتيال في حال حضور جنازتهم. ألم يبطل انقلاب المحكمة الدستورية في ظرف استقال فيه كل مستشاريه ومساعديه الذين انفتح عليهم وأشركهم فجازوه بالتخلي عنه في أحلك الظروف؟ وبما ذا أبطله؟ أبطله بأقسى ما يمكن أن يصدر من رئيس منتخب بعد ثورة: إعلان نفسه حاكما مطلقا بموجب إعلان دستوري ولكن ثقته بأنها ما هي إلا أيام وتمضي العاصفة ويكتشف الناس الظروف الذي دفعته لذلك ويعاونوه على إنجاز دستور يرسخ الشرعية ويوزع الصلاحيات جعلته يصبر على تلك التهمة الثقيلة على النفس. هاتان محطتان مهمتان في إدارة التحول داخليا نجح فيهما الرئيس والبقية كثيرة وهما مجرد مثالان. وعلى مستوى إدارة الملفات الخارجية المعقدة يكفي أن نتوقف عند مثالين أيضا: حرب غزة الأخيرة التي أدارها لصالح المقاومة بصمت وبدون تفاخر ووقف فيها ظهرا للمقاومة حتى حصلت على أفضل اتفاق إطلاق نار في تاريخ الحرب مع العدو (أو من أفضله لأنني لا أتذكر حاليا تفاصيل وقف إطلاق النار مع حزب الله "حزب الله سابقا!!" في 2006) ويكفي التذكير ببند واحد من بنوده وهو السماح للصيادين الفلسطينيين بالوصول لأماكن من بحر غزة ظلت "محرمة عليهم أربعين سنة" أو تزيد منذ النكسة سنة 67 أما المثالي الثاني فهو ملف التفاوض مع صندوق النقد الدولي فهذا الرئيس الذي يحتاج أكثر ما يحتاج إلى تحسين ظروف الناس الاقتصادية وهي الثغرة التي دخل منها خصومه لتجييش جزء مهم من الشارع ضده ظل على مدار عام كامل يفاوض صندوق النقد على شروطه (ونعلم جميعا ما هي "شروط " صندوق النقد الدولي الاقتصادية والسياسية) ولم تدفعه الحاجة إلى تحسين ظروف مواطنيه إن كان يريد ذلك أو "رشوتهم" بديون يسددونها من كرامتهم واستقلالهم إلى الرضوخ السريع لهذه الإملاءات، وسجل له التاريخ أن الانقلاب عليه "عفوا تحته" وقع وهو لم يثقل كاهل مصر بقيود هؤلاء المرابين.
الشامخون لا يُعلون هذا هو الدور التاريخي الذي "كان قدرا" للدكتور مرسي ولكي يقوم به لا يلزم أن يكون على كرسي أو في قصر وإنما يلزم أن يكون صاحب إرادة وأيم الله لقد كان حتى تكسرت على إرادته مراوغات العسكر ممن "كره التاريخ انبعاثهم فثبطهم" فلم يستطيعوا أن ينقلبوا عليه وإنما انقلبوا "تحته" والظرف لمن لا يعرف إلا "النحو الحسي" يكون أيضا معنويا. لقد قاد الزعيم نيلسون مانديلا التحول التاريخي الذي انتدبته له الظروف من غرفة مظلمة في جزيرة نائية، وما مرسي بأقل نصيرا ولا أبطل قضية، وإن عصرا يثور فيه الشعب البرازيلي ضد استضافة المونديال لجدير ألا يهضم فيه حق شعب مصر في قيادة أمة العرب والإسلام نحو النهوض الحضاري والاستخلاف على الناس.