الفَصاحة: البَيانُ، وسلامة الألفاظِ مِن الإبهامِ وسُوءِ التأليفِ. والعَامِّيُّ: المنسوبُ إلى العَامَّةِ. والعامِّيُّ من الكلام: ما نَطَق به العامَّةُ على غير سَنَنِ الكلام العربيِّ.
وتُعَدّ العامِّيَّاتُ العربيةُ أَحَدَ مستويات اللغة العربية، وهي بذلك ليست لغاتٍ مستقلةً عن العربية الفصحى، ولا يمكن – بأيّ حال من الأحوالِ - استبدالُ الأولى بالثانية.
وسيتّضِحُ ذلك-بإذن الله- من خلالِ هذا البحثِ الذي اخترتُ له العنوان، المُشارَ إليه، مع أنني سأتحدث فيه– بصفة أساسية- عن العامية الموريتانية"الحَسَّا نِيَّة". وذلك بحكم أنني أعرفها أكثر من غيرها من "العاميات" العربية الأخرى. ولعل غيري، من مواطنِي الأقطار العربية الأخرى، يقوم بمحاولة مشابهة، لجرد المتداول من الألفاظ العامة في البلدان العربية كافَّةً. فأهل مكة أدرى بشِعابِها. ولمَجْمَعَي القاهرة وعَمّان تجربة في هذا المجال سأتحدث عنها لاحقًا. يهدف هذا البحث إلى تقريب "الحَسَّانِيَّةِ" من العربية الفصحى، بالرفع من مستوى الأولى، وليس العكس الذي يقتضي النزول بمستوى الثانية(الفصحى) إلى مستوى الأولى(الحسانية)، مِمّا يقتضي- ضمن أمور أخرى- إرجاع اللفظ "الحَسّانيّ" إلى أصله الفصيح، إنْ وُجِدَ، واقتراح(وضع) البديل المناسب للألفاظ الأخرى ( ألفاظ من أصل غير عربيّ). من خصائص العامية، بصفة عامة، أنها تفتقر إلى المصطلح أو اللفظ الذي يُعبِّرُ، بكيفية دقيقة، عن المفهوم المقصود أو الدلالة المحددة، ولذلك فإنّها تلجأ إلى الشرح والتفسير، مستعينةً بالوصف. نقول-مثلا- في "الحسّانية": أَصْبِعْ لَكْبِيرْ(الإصبع الكبرى) ونحن عندنا في الفصحى: الإبْهام. ونقول: "أَصْبَيْعْ أنْيَنيَّهْ" ( تنطق النونان نطق :gn) في اللغة الفرنسية ، وعندنا في الفصحى: الخِنْصر، وهي الإصبع الصغرى، والبِنصر، وهي الإصبع بين الوسطى والخِنْصر. والوسطى: ما بين الإبهام والسبابة( الإصبع التي بين الإبهام والوسطى). صعوبة كتابتها بطريقة تُيَسِّرُ نطقها وفهمَها، فهي محكية وليست مكتوبة، ولا تتوفر على قواعد نحوية وصرفية قارّة ومُقعَّدَة تساعد على تَعلُّمِها وتعليمِها للناطقين بغيرها، ويقتصر كل ذلك على الطريقة الشفهية، وما يكتسبه الشخص عن طريق السماع والعيش مع من يتحدثون هذه "العامية". تختلف مفرداتها وتراكيبها من بلد عربيّ إلى آخر، ومن منطقة إلى أخرى، داخل القُطر الواحد، ولكل أهل صَنْعَة "عاميتهم" الخاصة بهم. فالسَّمّاكون لهم "عامّيّتُهم" التي قد لا يفهمها غيرُهم، وكذلك الحدّادُون، والدّبّاغُون، إلخ. بعض الحروف في "الحَسَّانيَّةِ" يختلف معناها باختلاف أصواتها (مخارج الحروف وطريقة نطقها)، "كالراء، وكالزاي، وكاللام...". من ذلك، على سبيل المثال: كَرْكَرْ (براء مرقّقَةٍ): ضحِكَ ضحكًا شديدًا، أقوى من القهقهة. بينما، كَرْكَرْ(براء مغلّظة"مفخَّمَة"): دَقَّ. كركر على باب الدار، إلخ. الكَلْبَهْ(بلام مفخمة): المَحْفَظَة: كيس تُحفظُ به النقودُ ونحوها. بينما، الكَلْبَهْ(بلام عادية"مرققة"): أُنثَى الكَلْبِ(وهو حيوان أهليّ معروف من الفصيلة الكلبية ورتبة اللواحم). إذا قلتَ-مثلًا- اشتريت هذه البضاعة من دولة مالي (البلد الإفريقيّ المعروف)، فإنّ نطق الميم يختلف (بسبب اختلاف المخرج)، عن نطق الميم -مثل ما تُنطَق في الفصحى- في نحو: اشتريت البضاعة بِمالي (بدراهمي). ثم إنّ الكَاف عندنا في "الحسانية"، إذا وضعنا عليها ثلاث نقاط ، قرأناها بجيم قاهرية. فمثلا: لفظة "الكَافْ "(بثلاث نقط)، تعني بيتا من الشِّعْرِ الحسّانيّ(لَغْنَ). وهذا غيْض من فيْضٍ، وهو يؤكّد- إن كان الأمر يحتاج إلى تأكيد- أنّ العاميات العربية، ومنها الحسانية، لا يمكن أن تنافس اللغة العربية الفصحى، ولا ينبغي لعاقل أن يفكر في أنها يمكن أن تحل محلها. وأرى أنه لا بدّ، في محاولتنا لتفصيح العامية (جعلها فصيحة)، أن نستفيدَ -عند الاقتضاء- من المُوَلَّد، والمُحْدَث، والمَعَرَّب، والدَّخِيل، ما دمنا نريد تقريبها من الفصحى. علمًا بأنّ المولد، هو اللفظ الذي اسْتُعْمِلَ-قدِيمًا- بعد عصر الرواية(آخر المائة الثانية من الهجرة لعرب الأمصار، وآخر المائة الرابعة لأعراب البوادي). المحدَث: اللفظ الذي استعمله المحدَثونَ(المتأخرون من العلماء والأدباء) في العصر الحديث وشاع في ألفاظ الحياة العامّة. المعرَّب: اللفظ الأجنبيّ الذي غيَّرَه العربُ، بالزيادة أو بالنقص أو بالقلْبِ، ليكون مُسْتَسَاغًا وخاضعًا- قدر الإمكان- للأوزان العربية. الدّخِيل: اللفظ الأجنبيّ الذي دخلَ اللغةَ العربيةَ دون تغييرٍ، مثل: الأكسجين، إلخ. ولا أعتقد، ونحن في القرن الحادي والعشرين، أنّ من مصلحة اللغة العربية، المراد لها أن تُسايِرَ عهد العولمة وتنافِس اللغات الحية الأخرى، أن نظلَّ متمسكين –حَرْفِيًّا- بآراء المتشددين الحريصين على عدم إدخال أيّ تغيير على البنية اللغوية. ولعلنا نتذكر الجدل الذي كان قائما بين مدرسة البصرة ومدرسة الكُوفة في هذا المجال. فنحن في زمان غير زمان المدرستين. ولقد أحسن مجمع اللغة العربية بالقاهرة، باعتماد بعض آراء الكوفيين الداعية إلى التيسير، بالإضافة إلى اجتهادات المجمع الرامية إلى المرونة والتيسير في ما لا يمسّ الجوهر. وينبغي أن يكون واضحا، أنّ ما أدعو إليه لا يعني –بحال من الأحوال- أن نفرِّطَ في ما هو أساسيّ وجوهريّ. والأمل معقود على تأسيس" مجمع اللغة العربية الموريتانيّ" للنهوض بهذه المَهمّة( تَفْصِيح الحسّانيّة)، بالتعاون والتنسيق مع مجامع اللغة العربية الأخرى، للاستفادة من تجاربها في هذا المجالِ. وأشيرُ هنا إلى أنّ المعجم الوسيط، الصادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة، تضمن العديد من الألفاظ الحديثة، المتداوَلة في مصرَ وفي غيرها من الأقطار العربية، وقد وقفتُ فيه على العديد من الكلمات المستخدمة في الحسّانية. من ذلك، على سبيل المثال: دَفَرَهُ: دَفَعَهُ في قفَاهُ أو في صَدْرِه. ونحن نقولُ في الحسّانية: فلان "دَفرْتُ" سَيارة. وجَفَلَ: ونحن نقول " أجْفَلْ". وشَرَدَ. ونحن نقول في الحسّانية: "اشْرَدْ"، أي: شَرَدَ ونَفَرَ، وأمْضَى وأسْرَعَ. كما أنّ مَجمَع اللغة العربية الأردنيّ، أعَدَّ معجمًا يتضمن الألفاظ العامة المستعملة في الأردن. وحبّذا لو قامت موريتانيا بتأسيس مجمع للغة العربية يكون من بين مشروعاته وبرامجه، إعداد معجم للألفاظ العامة المستعملة في بلادنا، مِمّا سيساعد على تَفْصِيحِ "الحسّانية". على أن يقوم كل مجمع لغويّ عربيّ بتجربة مشابهة، وذلك على غرار تجربة مصر والأردن. وستساعد هذه المعجمات على جَرْدِ الكلمات العربية الموجودة في "العامّيّات" العربية المختلِفة، وتصويب المحرَّفِ منها، بإرجاعه إلى الأصل الفصيح(السليم)، وإدخال هذا المحتوَى اللغويّ الحيويّ في المعجمات العربية الحديثة. وهي محاولة جادّة وعمليّة لتفصيح "العامّيّات"، وفي ذلك نوع من إضفاء الحيوية على اللغة العربية، وجعلها تَشِيعُ في لغة التخاطب في الحياة اليوميّة للمواطن العربيّ. وستكون هذه التجربة-إن قُدِّرَ لها أن تنجحَ- نواةً مهمة لإحدى حلقات "المعجم التارخيّ" الذي تعكف مجامع اللغة العربية على إعداده. أرجو أن لا يُفهَمَ، من هذا الكلام، أنّني أُنادِي باستعمال العامّيّة بَدِيلًا للفصحى، أو أنّني أدعو إلى أن يكون لكل قُطر عربيّ مُعجمُهُ الخاصّ به، ومِن ثَمَّ لغته الخاصّة. إنّ قيام موريتانيا –على سبيل المثال-بإصدار مُصحَفٍ شريفٍ خاصٍّ بها، لا يعني أنّ محتوى هذا المُصْحَف يختلف عن محتويات المصاحف الأخرى، اللهم ما كان يتعلق بالقراءة المعتمدة، أو بطريقة الإخراج. بمعنى أنّ هذه المعاجم القطرية، لن تخرج عن إطار اللغة العربية ما دامت عبارة عن جردٍ للألفاظ العربية المستعملة في كل قطر وإدخالها في المعجم اللغويّ العامّ، ثمّ إدراجها ضمن المعجم اللغويّ التاريخيّ الذي يرصد تطور معاني الألفاظ ودلالاتها عبر الزمن. إنّني أريد- بكل وضوح- أن نعمل على تطوير اللغة العربية، دون الإخلال بالثوابت، لكن هذه "الثوابت" لا بدّ أن تكون "مُتَحَرِّكَةً" ، بمعنى ثبات ما هو جوهريّ وأساسيّ وتغيّر ما دون ذلك، حسَب ما تدعو إليه ضرورات العصر من تحديث وتطوير. لقد آن الأوان لجمع هذه "العامّيات" وصقلها وإدماجها في الفصحى ، حتى نثبت للعالم أن العرب- من المحيط إلى الخليج- يتكلمون لغة واحدة(مع اختلاف مستوياتها). وليس ببعيد عنا، تلك الأصوات التي تقول إنّ العربية ليست لغةً واحدة، وإنما هي لغات متعددة بتعدد "العامّيّات" العربية. بل يذهب هؤلاء في غلوهم وشططهم- إلى أن يقولوا إنّ العربية الفصحى ستموت قريبًا، لأنها ليست لغة الشارع، ولأنّ من يدرسها يجد انفصاما- شبه تامّ- بين المدرسة والمنزل والشارع. إنها- في الواقع- كلمة " حق" أريد بها باطل، فالاختلاف موجود فِعلًا، لكنه ليس كما يتصوره هؤلاء. ففي كل بقاع العالم، لا يمكن أن نجد لغة في مستوى واحدٍ. وما دمنا قد سلّمنا بوجود هذه الظاهرة (الاختلاف بين لغة المدرسة ولغة الشارع)، فإنه من واجبنا أن نعمل على تقليصها، ولن يتأتّى ذلك إلّا بالتعاون والتنسيق بين مؤسسات العمل العربيّ المشترك، وعلى رأسها مجامع اللغة العربية التي يجب أن تتحمل هذه المسؤولية، بالتعاون مع المؤسسات العربية المتخصصة والجامعات والاتحادات ورجال الأعمال ومنظمات المجتمع المدني، إلخ. عِلْمًا بأنّ تحقيق هذا النوع من المشروعات العملاقة، منوط بمؤسسات تتوفر على الأموال اللازمة والخبرة البشرية الضرورية. ويمكن لهذه المؤسسات أن تستعين بجهود الأفراد الغيورين على هذه اللغة، كلما دعت الحاجة إلى ذلك. وأشيرإلى أنّ المنهج الذي سرتُ عليه في إعداد هذا البحث (إن صح وصفه بالمنهج)، هو أنّني أسْتَحْضِرُ كلمة أو جملة "حَسّانيّةً" مُحدَّدةً وأجتهد في كتابتها بطريقة يبدو لي أنّها تعكس صوتَها عند النطق بها، ثمّ أبحثُ عن الكلمة أو الجملة المناظرة لها في اللغة العربية الفصيحة( السليمة)، ثمّ أشرحها من أجل أن تكتمل الصورة. مع العلم أنّني لم اُرَتِّبْ الكلماتِ ترتيبًا خاصًّا (جِذرِيًّا أو أَلِفْبَائِيًّا) لصعوبة إخضاع " الحسّانيّة" لهذا الأمر. ثمّ إنّني لم أقسِّم الألفاظ إلى موضوعات أو حقول دلالية معيَّنة-في هذه المرحلة من البحث- تاركًا ذلك إلى ما بعد اكتمال البحث، لاتّخاذ قرار في الموضوع ، حسَب غَزَارة المادّة وتنوُّعِ موضوعاتها، ومدى أهمية تصنيفها. وقد يتعيّن ذلك عند ما يبدو لي أنّ البحث ينبغي إصداره في كتاب ورقيّ لإتاحته لجميع القراء. ومع ذلك، فإنّني لا أستبعد- مع تقدمي في البحث- أن أخصِّصَ بعض الحلقات لموضوعات بعينها (أسماء الخُضَر والفواكه، والأدوات المنزلية، إلخ.). كما أشير إلى أنّني اعتمدتُ، في تحقيق هذا البحث- بصفة أساسية- على: فقه اللغة للثعالبيّ، والمعجم الوسيط. وسأشير- بإذن الله- إلى المراجع بعد أن تكتمل، لأنّ لكل حلقة من حلقات البحث مَراجعَها التي تناسبُها. فعند ما أصل –مثلًا- إلى أسماء الخُضَر والفواكه، سيكون من المناسِب أن أرجع إلى المعاجم الفرنسية العربية، لأنّ مسمّيات معظمها عبارة عن ألفاظ فرنسية محرَّفة، حيثُ تَزامَنَ ظهورها واستهلاكُها مع الفترة التي خضعت فيها موريتانيا للاستعمار الفرنسيّ الذي فرض لغته في المدارس الحكومية ، وأدخل إلى الأسواق بعض منتجاته ، حاملة معها مسمّياتها الفرنسية.ولا يعني ذلك أنّ كل مسمّيات هذه المأكولات مأخوذة من اللغة الفرنسية.والأمثلة على ذلك كثيرة، وقد ترد نماذجُ منها لا حِقًا. وقد ألجأ كذلك إلى المعاجم الإسبانية العربية، عند وجود كلمات "حسّانيّة" من أصل إسبانيّ. وهي موجودة فِعْلًا، في الشمال الموريتانيّ بصفة خاصّةٍ. ولحسن الحظ ، فإنّني درستُ اللغتين(الفرنسية والإسبانية) مِمّا قد يساعدني على القيام بهذة المَهمة الصعبة، بتوفيق من الله. ولا شكَّ في أنّني سأجد كلمات كثيرة ذات أصول بربرية وزنجية... ، بحكم تركيبة المجتمع وتأثير الجوار الجغرافيّ، مِمّا سيجعلني مضطرا للاجتهاد من أجل اقتراح( وضع) ما يناظرها في اللغة العربية الفصحى(لغة سليمة)، مع الاستعانة- دائمًا- بالمعاجم اللغوية. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّني، بحكم انتمائي إلى ولاية لبراكنة(مقطع لحجار تحدِيدًا)، فإنّ هذه المقارَبة لا تدّعي أنّها تشمل جميع الألفاظ "الحَسّانيّة" المتداولة في ولايات الوطن الأخرى، وذلك للأسباب التي أشرتُ إلى بعضٍ منها(اختلاف "العامّيّة" من منطقة إلى أخرى داخل القُطْرِ الواحد). إنّني أُدرِكُ تمام الإدراك مدى صعوبة البحث في هذا المجال، ومع ذلك فقد قررتُ- بعون الله- أن أخوض غمار هذه المحاولة، خدمةً للغتنا العربية الجميلة، لغة القرآن الكريم.وقد اكتفيتُ في هذه الحلقة(الأولى) بإلقاء الضوء على بعض الأفكار العامة والتصورات المتعلقة بالبحث. وفي الحلقة الموالية(الثانية)، سأدخل-إن شاء الله- مباشَرةً في صلب الموضوع.