سنحط الرحال اليوم في حلقتنا هذه عند جيل القرن العشرين ، القرن الذي أنجب كوكبة من كبار علماء الأمة ومفكريها الذين وجدوا أنفسهم مجبرين على الدخول في صراع بين بعض تيارات العالم الإسلامي في قضية المرأة ، مابين المفرط في حقها جاعلا إياها نصف حيوان، خلقت من أجل خدمة الرجل فقط ، ناقصة عقل ودين مصدر الشر والبلاء والمكر والخداع ...!!!
وبين من أستغل وضعها فشوه لها الدين الحنيف ، وأبعدها من رحمة عدله ، فاصطدمت بنصوصه فلعنتها عن جهل وسوء فهم ، فبتر خطاب التحرر- الذي تسعى إليه - من سياقه الديني والحضاري ، فوقع الإفراط في قضية عادلة مثل فك قيد المرأة من أسر قرون التخلف والرجعية التي عاشتها الأمة بعد أفول العهد الراشدي ...
وبين تياري الإفراط والتفريط ضاعت المساواة بين الرجل والمرأة.... مثل ما كان قائما في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، الشيء الذي جعل الأمر بحاجة لمخرج يستطيع أن يعيد للقضية عدالة إسلامية منبعها الدين الحنيف، مع فهم عقلاني لمستجدات العصر وضروراته ، بعيدا عن الجمود والتحجر وتقديس الاجتهادات البشرية ، التي تجاوزتها تجربة إنسان القرن العشرين ، حفاظا على كنه جوهر استمرارية رسالة الإسلام وخلوده ....
وفي السير على درب زمن القرن العشرين يتخيل لنا أن القدر كأنه هيأ لجيل القرن التاسع عشر أن يسلم حركته الإصلاحية للجيل الذي يليه ، ففي سنة 1905 التي توفي فيها محمد عبده زعيم مدرسة المنار التي سبق وإن تكلمنا عنها في حلقة سابقة ، هي نفسها السنة التي ولد فيها المفكر الإصلاحي مالك بن نبي من الجزائر ، الذي قيل فيه : " يعتبر المفكر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي واحدا من رجالات القرن العشرين الذين شغلوا أنفسهم بقضايا أمتهم، وسعوا إلى بلورة الحلول والاقتراحات الكفيلة بإخراج الأمة المسلمة من تخلفها الشامل المركب، ودفعها إلى معانقة العصر بفاعلية ".
قد خصص هذا المفكر الإصلاحي في كتابه : " شروط النهضة " جزأ هاما منه لقضية المرأة فكان بعنوان : " مشكلة المرأة " وقد حدد د/ إدريس الكندوري موقف مالك من الصراع الدائر في عصره حول المرأة بقوله : " ... من هنا وقف مالك من قضية المرأة موقفه من القضايا الأخرى، وقد أطلق تسمية "مشكلة المرأة" في كتابه "شروط النهضة"، وذلك انسجامًا مع منظومته الفكرية التي تدور حول مشكلة الحضارة عموما من ناحية، وللتدليل على مقدار التضخيم الذي كان من نصيب موضوع المرأة في العالم الإسلامي، سواء من أنصار التحرر الذي يصل بالمرأة إلى درجة التحلل، أم من أنصار التزمت الذي يغلق بصره أمام حقائق الإسلام...." .
وفي نفس الكتاب يقترح مالك بن نبي عقد مؤتمر يحضره الفقهاء والمفكرون والأطباء وعلماء النفس وعلماء الاجتماع للبحث في قضية المرأة ، لكي لا تتيه في غمرة تيارات الإفراط والتفريط ، فيقول عنه الإدريسي : " وما يملي عقد مؤتمر للمرأة المسلمة عند مالك بن نبي هو أن المرأة في العالم الإسلامي تتطور أوضاعها بطريقة غير مرسومة الأهداف ودون غاية محددة، أي بعيدا عن أهداف البناء الحضاري للأمة، مما يقتضي ضرورة التخطيط لهذا التطور لتحديد الأهداف المتوخاة منه، بشكل لا تتعارض فيه مع الأهداف العليا للأمة الإسلامية....".
توفي المفكر الإصلاحي الجزائري مالك بن نبي سنة 1973 بعد ما أسس إطارا فكريا ومرجعا حضاريا هاما للأمة الاسلامية والعربية منها على وجه الخصوص .
هذا وفي سنة 1917 ولد محمد الغزالي أهم علماء الأمة في عصره وأكثرهم تحيزا لنصرة المرأة ، حيث ظل سعيه متواصلا من اجل توضيح الرؤية الدينية حول المرأة ، وقد كان الغزالي رحمة الله عليه صريحا في مواقفه تجاه قضايا أمته وما يمس بتشويهها مثل قضية المرأة التي يرى الغزالي أنها أعتمد فيها على العادات الاجتماعية أكثر من الدين ....!!!.
لقد وقف الغزالي من التيارات المتصارعة حول قضية المرأة موقفا صادقا وعادلا في حقها .... كما يليق بعالم جليل مثله ، حيث ألف كتابا بعنوان : " قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة " وكان هذا الكتاب ثمرة جهد عالم مصلح كالغزالي شمعة تضيء للمسيرة النسائية دربها في ليل حالك يترنح بين أطماري تقاليد اجتماعية بالية وعادات غربية وافدة ....
لقد عرف الغزالي موقفه من قضية المرأة من خلال تقديمه لكتاب تحرير المرأة في عصر الرسالة لمؤلفه عبد الحليم أبو شقة أحد أساطين تحرير المرأة ، ولنا وقفة معه هو الآخر، يقول الغزالي : " إن المسلمين انحرفوا عن تعاليم دينهم في معاملة النساء ، وشاعت بينهم روايات مظلمة وأحاديث إما موضوعة أو قريبة من الوضع ، انتهت بالمرأة المسلمة إلى الجهل الطامس والغفلة البعيدة عن الدين والدينا معاً .. كان تعليم المرأة معصية ، وذهابها إلى المسجد محظوراً ....!!!"
يتواصل ....