في حافلة متهالكة تذرع بطريقة غريبة شوارع العاصمة وجد نفسه...أمسك قضيبا حديديا صدئا وغاص في حلمه المعتاد.
في الجهة المقابلة من بقايا مقاعد الحافلة تَكوَّمتْ سيدةٌ في عقدها الرابع, تحمل وعاءا بلاستيكيا ممتلئا بالخضار وتلف حول خصرها رداءا باليا تستخدمه لحمل رضيعها الصغير... كانت تحملق في قميصه الذي بدأ يفقد لونه الأصلي وحاملة أوراقه التي أرهقها التِّطوافُ بين مكاتب التشغيل ووقفات "كَوَّاسْ حامل شهادة" الاحتجاجية...
أخرج منديلا رخيصا وراح يجفف جبينه..في تلك اللحظة بالضبط كان يجفف فقط...لم يكن يعرف هل كان يجفف عرق يوم من أيام يونيو الحارقة أم يجفف نظرات رفيقة رحلته البائسة؟..
عليه أن يصل في الوقت المحدد لكن وسيلة نقله المكتظة تفقده الكثير من إحساسه بالوقت ..مازال يذكر قصته مع الحافلات..قصة الساعات الضائعة من سنواته الثلاثة في الجامعة... قبل سنوات طويلة حين كان طالبا في كلية العلوم وعندما كان أستاذ الفيزياء يحاضر حول أنواع التسارع ضرب لهم مثالا بباصات النقل التي تجوب العاصمة بحركتها المتذبذبة بين التسارع والتباطؤ...الآن بعد هذه السنوات الطويلة فهم أستاذه بشكل عملي.
علي جانب الشارع تتزاحم دكاكين ومحلات تجارية...محلات كثيرة تترك في نفسه انطباعا وحيدا وجرحا غائرا منذ سنين...منذ سنين أراد أهله أن يعمل في التجارة...أن يتاجر بدل إنفاق سنوات عمره الثمين منكبا علي نظريات هوجاء وعلوم تطبيقية درسها بشكل نظري بحت.
مازال يذكر أيضا وعده لبنتِ خاله ذات مساء وتلك الأحلام الوردية التي تخلي عنها أو علي الأصح تخلت عنه بشكل تدريجي وبتسارع فائق.
ثلاث سنوات فقط من جامعة نواكشوط كانت كافية لتقليص جميع أحلامه إلي حلم وحيد ما زال يتحدي عاديات الزمن.
السيئ في موت الأحلام أن رثائها والبكاء من القلب عليها أمور غير مألوفة في الكثير من المجتمعات...الطريقة الوحيدة لرثاء حلم ميت هي بالتمسك اللاعقلاني بالأمل..والتفاؤل الأبله بغد أفضل..هكذا اخذ يحدث نفسه في هدوء مصطنع.
صحيح أنه لا يعرف سر صمود حلمه الوحيد في هذه المرحلة البائسة من تاريخه الشخصي...ربما صعوبة تحقيقه وربما تلك السرية التي ظل يحيطه بها منذ البداية. بكل تأكيد سيستهزئون به في " كَوَّاسْ حامل شهادة" عندما يطلب منهم إضافة حلمه لقائمة مطالبهم المؤجلة.
فكرة غريبة لاحت له في تلك اللحظة عندما كان جل الركاب يغادرون الحافلة...وجد نفسه وحيدا مع بائعة الخضار الأربعينية..وبدون مقدمات طرح عليها السؤال:سيدتي الكريمة هل يستطيع الزمن الرجوع إلي الوراء حتى أبرهن لأستاذ الفيزياء في كليتي أن خير مثال علي التسارع والتباطؤ ليس بالضرورة حركة حافلات النقل العمومي وإنما حركة التقدم في وطننا الحبيب؟
فغيرت السيدة فمها بطريقة سخيفة وضربت كفا على كف قبل أن تطلب من السائق التوقف.. تدحرجت من الحافلة مستعيذة من الشيطان الرجيم... الشيطان المعرفة... الشيطان التقدم...شيطان الحلم.