في وسط بدوي غير مستقر شكلت ولاتة استثناء بنموذجها الحضري ومدارسها الثابتة ومكتباتها ونظامها السياسي المتميز المتمثل في السلطة الجماعية في صورة مجلس أعيان يمثل فيه كل حي بنقيب ، وكانت في البدء تسمى ( بيرو ) وكانت خاضعة لامبراطورية غانا ، نزل بها " السرغلات " عند ما تفرقوا من غانا ثم عرفت بعد ذلك باسم " إيوالاتن " أو " ولاتن " ثم الاسم الحالي "ولاتة"، ازدهرت فأصبحت مركزا للتجارة الصحراوية ، واتخذتها القوافل مركز انطلاق لتجارة الذهب القادم من مالي الى سواحل المتوسط ، بحكم موقعها بين الاقاليم السودانية وبين سجلماسة والواحات المغربية ، ووصف ابن بطوطة رخاء معيشة أهلها بقوله ( ويجلب اليهم تمر درعة ، وسجلماسة ، وتأتيهم القوافل من بلاد السودان فيحملون الملح ويباع الحمل منه بولاتن بثمانية مثاقيل الى عشرة ويباع في مدينة مالي بعشرين مثقالا وربما يصل الى اربعين مثقالا وبالملح يتصارفون كما يتصارف بالذهب والفضة يقطعونه قطعا ويتبايعون به ، ووصف أهلها بأنهم محافظون على الصلوات وعلم الفقه وحفظ القرآن ، ونوه بدورها الثقافي والتجاري وكرم أهلها .
ومنذ مطلع القرن السادس عشر الميلادي عرفت مدينة ولاته بداية نهضة فكرية كبيرة ، واصبحت احد اهم مراكز الاشعاع الثقافي العربي الاسلامي ، وهاجر اليها عدد كبير من علماء مدينة تمبكتو التي عرفت قلاقل وفي نفس الظروف هاجر اليها علماء ومفكرون من فاس وتلمسان ومراكش ، كما استقر بها بعض اهالي توات بجنوب الجزائر ، وبعض العائدين من الاندلس التي سقطت نهائيا بيد الاسبان عام 1492. هذا الكم الهائل والمتنوع من المهاجرين رفد المدينة بمصادرها الثقافية التي بقيت وسمح لها بأن تتحول خلال القرون الخمسة الماضية الى منارة ثقافية وعلمية وعاصمة من عواصم الفقه المالكي ، كما نجد هذه الروافد المختلفة ماثلة في العمارة الولاتية البديعة ، وفي عادات سكان المدينة شديدة التحضر وسط عالم صحراء بدوي ، لا يعرف هذه العادات الحضرية التي استقدمها الوافدون معهم من فاس وتلمسان وغرناطة وغيرها من الحواضر العربية العريقة في العمران والمدنية .
تشتهر ولاتة بجمال العمارة العربية الاسلامية فيها خاصة منها الاندلسية والمغربية ، والبيت الولاتي يضمن نوعا من التهوية الطبيعية وذلك بتقليله من الابواب ، فلكل منزل بابان لا أكثر أحدهما مخصص للرجال والضيوف ، والآخر للنساء والحريم عامة ، كما أن في كل بيت مجلسا يسمى محليا "درب" وهي إشارة الى موقعه كأقرب مكان من باب الشارع حتى لا تقع عين الزائر على الحريم ، وللحريم ايضا مجلس يكون بابه داخليا اي متفرعا من احدى الغرف فقط ويسمى "السقفة" ولا يخلو بيت من دور علوي يسمى "القرب" والسلم الصاعد إليه يكون متسعا لحد يسمح بفناء تحته توضع فيها قدور الماء لتبقى باردة .
و أول من سكنها من أهلها قبيلة "لمحاجيب" وكانت لهم الرئاسة فيها حتى دخول الاستعمار الفرنسي لها سنة 1912 م .
والمحاجيب ينتسبون لجدهم يحيى الكامل بن شعيب المحجوب ، الذي وصل ولاته في القرن السادس الهجري رفقة جماعة منها ابنه محمد ومؤذن وطالب علم وحداد ، وكان متخفيا في طريقه فسمي بالمحجوب، إنه شريف حسيني مجاهد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله ، وكان تقيا ورعا عالما جليلا مجاب الدعوة اجتمعت الجماعة تحت لوائه لحذاقته ووفور عقله وأن الله سبحانه وتعالى مده بالكمال والرزانة وحسن الخلق ولهذا سمي بالكامل وهو حسب ما يقال قدم من العراق مباشرة إلى مدينة ولاته .
في ولاته ولد العلامة الجليل أبّ ولد أنَّ سنة 1919 لوالده إنّ ولد محمد المصطفي المحجوبي، نبغ صبيا ونشأ على ما كان علمه أبوه من مكارم الأخلاف وقيم النبل والرجولة وتلقى عليه القران حفظا ودراية وأخذ العلم عن كوكبة من علماء ولاته، ودرس العلوم الشرعية واللغوية دراسة معمقة.
في سنة 1941 عين معلما للغة العربية في مدرسة تمبدغة وفيها أتقن الفرنسية وفي سنة 1947 عين مديرا لمدرسة تامشكط ومدرسا للفرنسية فيها ومنها إلى مدرسة النعمة، وفي 1952 عين مترجما "أملاز" في النعمة إلا أن الحاكم الفرنسي "لمانصوه " لم يرض عنه لانحيازه للوطن والمواطن بدل المستعمر، فترك الترجمة ورجع للتدريس في سنلوي " اندر " وتعلم الانجليزية قراءة وكتابة .
وغداة الاستقلال عين نائبا في البرلمان وفي حكومة الاستقلال 1961 عين وزيرا للتهذيب ثم العدل ثم استقال ليصبح نائبا وحين أقيل رئيس الجمعية الوطنية سليمان ولد الشيخ سيديا سنة 1963 عين اب رئيسا للبرلمان مكانه وكان قوي الشخصية شجاعا.
في سنة 1966 عين رئيسا للمحكمة العليا وفي سنة 1975 انتخب عضوا في البرلمان وبعد انقلاب 1978 عين وزيرا للعدل
ثم تقاعد ليتفرغ للدرس والمطالعة والتأليف حتى توفي في السابع من مايو سنة 2007 مخلفا الكثير من الآثار العلمية المفيدة
كان المختار ولد داداه يحبه ويُجلّ فيه العالم وكان يصحبه في رحلاته إلى الدول العربية والاسلامية.
من قصصه أنه حين تحول "أملازا" وكان قبلها معلما جاء أحد الوجهاء للمنزل بجمل محمل بالزرع وقامت الأسرة بإعداد طبق من ذلك الزرع وحين عاد هو تفاجأ بالزرع وحين أخبروه القصة اشترى الكمية المستعملة وردها على زرع الرجل وحمله إليه وعنفه فاعتذر الرجل بأنها مجرد هدية فقال له لقد كنت معلما ولم أتلق أية هدية من أحد فلماذا الهدية وقد أصبحت مترجما؟!
والشيء بالشيء يذكر فقد روى النائب محمد عالي شريف أن الملك فيصل أهدى للرئيس المختار شيكا بمبلغ مليون دولار أمره المختار بإيداعه في الخزينة العامة للدولة فقال له شريف : الشيك باسمك وهدية شخصية فقال له : لو كنت رجلا عاديا جالسا في بتلميت ما أعطاني أحد شيئا المبلغ أعطي للدولة الموريتانية .
ومما يروي البعض أنه حين زار الوزير أبّ ولد إن مصر كتبت بعض الصحف أن الوزير الموريتاني يحمل أقصر اسم في العالم من حرفين حرف له هو الباء وحرف لأبيه النون.
رحم الله أبّ ولد أنّ رجل من الجيل المؤسس أعطى في صمت ورحل في صمت.