ما إن أسمع سورة يوسف، تلك السورة التي تضمنت قصة نبي الله يوسف عليه السلام، تلك القصة العجيبة التي حكم لها القرآن بأنها "أحسن القصص" حتى تتوارد على ذهني العشرات من الصور الشاعرية.
فهي قصة مليئة بالمشاهد العاطفية والخلجات النفسية المؤثرة، فبدءا بمشهد نبي الله يعقوب عليه السلام وهو يحاجج أبناءه في شأن عزمهم على اصطحاب يوسف معهم وقد تملكته عاطفة الأبوة وحنانها شفقة على يوسف أن يمسه مكروه وكأنه قد أحس بشيء ما يريد أن يأخذه منه، ثم مشهد الإخوة وهم يدبرون المؤامرة ضد يوسف ونفوسهم تعتلج بداخلها مشاعر الكراهية والحقد، ثم مشهد يوسف وقد أُلْقِيَ في الجب وتفرق من حوله أخوته وتركوه وحيدا يعالج مشاعر الخوف وألم الوحشة، ثم مشهده وقد سمع حسيسا وأصواتا تقترب من الجب أتراها ترد الماء أم تتجاوز؟! ثم مشهده وقد ورد القوم الئبر وأدلى واردهم دلوه في قعر البئر لتكون تلك اللحظة هي بداية الفرج ولحظة الفرح، ثم مشهده وهو يُسْتَرَقُّ ويباع بدراهم معددوة وهو الكريم بن الكريم بن الكريم، وكأني به وهو ينظر بعنين ذابلتين وببراءة الطفولة في وجوه الكبار وهم يتباحثون في شأنه.
ثم مشهد يوسف وهو يواجه أول اختبار من نوعه... إنها خلجات النفس وهي تواجه موقف الشهوة وتتنازعها دواعي الرغبة وهتاف السمو، ثم مشهده وهو يُتَّهَمُ في عرضه وهو الرجل الغريب المسترق الذي لا سند له ولا ظهير، ثم مشهده وهو يودع في السجن وتوصد دونه الأبواب، ثم مشهده وهو الغريب المسترق الذي خرج لتوه من السجن يتوج عزيزا على مصر، ثم مشهده وقد دخل عليه إخوته بعد طول غياب فعرفهم وهم له منكرون، ثم مشهد إخوته بعد ما عرفوه وهم تتنازعهم مشاعر الفرح ومشاعر الخجل، ثم مشهد يعقوب وقد تنسم عبير ريح يوسف، وهو يهتف في بنيه : "إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندوني".
كلها مشاهد عجيبة ومؤثرة، ولكن ثمت مشهدان في القصة يذهبان الأنسان بعيدا وكأنه جزء من القصة، هتان المشهدان هما:
أولا : مشهد يعقوب عليه السلام وقد طال انتظاره ليوسف ومشاعر الحزن والألم تعتلج في نفسه، فيأته أبناؤه فيخبروه بسجن أخي يوسف ليضاعفوا بذلك من حزنه ويجعلوا الهم همين أو هموما مضاعفة، فلا يجد ما يعبر به سوى ما حكاه عنه القرآن : "وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ" .
ثانيا : مشهد إخوة يوسف، وهم في موقف المسكنة والضعف، يخاطبون عزيز مصر قائلين : "يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ".
هذين المشهدين يحكيان قصة الألم وموقف الحزن، وفي المشهد الأول يواجه نبي الله يعقوب عليه السلام تلك الأحزان التي طال أمدها بالصبر الجميل وجميل الالتجاء إلى الله وبث الشكوى إليه، بينما تغلب إخوة يوسف وطأة الألم فيبثون أحزانهم إلى عزيز مصر، وهم لا يعرفون أنه هو يوسف الذي تآمروا ضده قبل عقود من الزمن ولم يرحموا ضعفه وصغر سنه ولا ضعف والده الشيخ الكبير الذي بلغ من الكبر عتيا.