واهم من يظن أنه لا تعلق لما يجري في غزة من إبادة وتقتيل (للنساء والفتيات) بحراك نواكشوط، الهادف لتمرير قانون النوع (قانون محاربة العنف ضد المرأة والفتاة!).. إنها معركة واحدة لفرض الهيمنة واستعباد الأمة، وإن تعددت أسلحتها وأدواتها: حيث تُستخدَم القوة الناعمة لتحقيق الأهداف الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، جنبا إلى جنب مع القوة الضاربة الهادفة للقتل والإبادة، إضافة إلى دور الحكومات الوظيفية والكيانات السياسية والثقافية ومنظمات المجتمع المدني المتماهية مع الاستعمار الجديد، والتي تقدم دور الوكيل المحلي، وفق ما ترسمه سياسات واستراتيجيات العدو المنشورة المعلنة.
ولعله يغيب عن كثيرين أن غزة شهدت قبيل الطوفان المبارك جهودا مضنية لفرض فلسفة النوع، تماما كما يعتمل في موريتانيا منذ سنوات، إذ أصدر "مكتب الأخلاقيات" بالأونروا - في خطوة جريئة مستفزة - "مدونة قواعد السلوك" لفرضها على مجتمع المنظمة ومدارسها، ضَمَّنها مبادئ الجندر والحرية الجنسية وحقوق المثليين والمتحولين، وقد واجه المجتمع الغزي المسلم المحافظ هذا العدوان برفض قاطع وغضب عارم، ثم جاء الطوفان فجرف كل المكر والكيد، وانكشف الوجه الكالح للمنظمات المشبوهة، وظهر تواطؤها ونفاقها وولاؤها للقتلة والمجرمين.
صبيحة السابع من أكتوبر ومع بشارات الفتح الأولى، وما تلاها من إبادة ومجازر انتقامية نازية، تأجلت كل المشاريع وأرجئت كل الأعمال، إذ لا صوت يعلو فوق صرخات النساء والأطفال، من تحت الركام وعلى أطلال البيوت المهدمة، ولا ذكر إلا ليوميات الحرب، ولا فكر إلا في دمائنا النازفة، يومها زال التحفظ الوظيفي ودون وزير الشؤون الإسلامية: الله أكبر!.. فدعونا حينها: جعل الله هذه التكبيرة تكفيرا للتماهي مع فلسفة النوع والسعي للتمكين لها، إلا أنه - ورغم الموقف الرسمي المشرف بالمجمل من العدوان – ظهر تيار مشبوه استغل انشغال المسلمين بمصابهم لنفخ الروح من جديد في قانون العقوق، وما لبث السر أن تكشف وظهر للعلن، ثم تبعته جهود الحشد والدعاية بشكل مثير للريبة، وإن بدا كل ذلك باهتا ضعيفا.
وكان مثيرا للغضب والاشمئزاز اجتماع وزير العدل بالسفيرة الأمريكية في ال13 من نوفمبر "من أجل إصلاح القضاء وتعزيز حقوق الإنسان في موريتانيا!"، وهي التي رفضت بكل صلف وصفاقة واحتقار تسلم خطاب الأحزاب السياسية الرافض للعدوان، وتنخرط إدارتها في الإبادة تخطيطا وتسليحا ودعما وقتالا، ومنذ اليوم الأول ظل رأس الدبلوماسية الأمريكية عضوا مؤثرا في مجلس الحرب في تلابيب، يحضر الاجتماعات المفصلية ويوجه ويخطط، هو وعشرات الخبراء والمعاونين، بل تحول إلى مجرد "ناعق رسمي" باسم الصهاينة المجرمين المعتدين، فكان من غير الوارد الجلوس مع قتلة النساء والفتيات لنتعلم حقوق النساء والفتيات، و لنعزز حقوق الإنسان في موريتانيا!.
ولسائل أن يسأل عن العائد الاستراتيجي لفرض فلسفة النوع، ولماذا تسعى المنظومة الدولية لتمكينها بشتى الوسائل، وتطيل النفس دون كلل أو ملل، فأقول: بعد تعثر القوة الضاربة في أكثر من ميدان، والهزيمة الماحقة في أكثر من جبهة، اتجهت القوى الاستعمارية لبذل مزيد من الجهد لتجريد الأمم الأخرى من مصدر قوتها وسر تفوقها (الإنسان – الأسرة – المجتمع)، ليسهل بعد ذلك التدجين والاستتباع، ومن أفضل من رأيته فكك هذه الإشكالية د. عبد الوهاب المسيري رحمه الله، في رسالته اللطيفة "قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى"، ومن جملة ما قال: (العالم الغربي الذي أخفق في عملية المواجهة العسكرية المباشرة مع العالم الثالث، اكتشف أن هذه المواجهة مكلفة وطويلة ولا طاقة له بها، ومن ثم فالتفكيك هو البديل العملي الوحيد).
ويضيف الدكتور المسيري: (كما أدرك العالم الغربي أن سر نجاح مجتمعات العالم الثالث في مقاومته يعود إلى تماكسها، الذي يعود بدوره إلى وجود بناء أسري قوي، لا يزال قادرا على توصيل المنظومات القيمية والخصوصيات القومية إلى أبناء المجتمع، ومن ثم يمكنهم الاحتفاظ بذاكرتهم التاريخية، وبوعيهم بثقافتهم وهويتهم وقيمهم)، وإلى هذا الهدف الجوهري يمكن أن نضيف أهدافا أخرى، من قبيل تَتْفِيه وتسليع الإنسان، وتحويله لمجرد مستهلك أو أداة تخدم المنظومة الغربية المادية المتوحشة.
ورغم الجراح والألم فإن معركة الطوفان كانت فرقانا أسقط الأقنعة وفضح خطط الأعداء ومكرهم الكبار، ولم تعد دعاواهم العراض ولا شعاراتهم الزائفة لتنطلي على أحد، ومن بين ما أسقطت الملحمة الخالدة فلسفةَ النوع، وما تستلزمه من تسليع للمرأة ووأد للحياء، وهدم لكيان الأسرة وروابط المجتمع، وإشاعة للفاحشة في الذين آمنوا بتشريع الفجور، والحرب على الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
لقد أجهزت غزة على دعوات النوع حين عرت المنظومة الغربية، وأظهرتها على حقيقتها: مجرمون قتلة لا يرقبون في امرأة ولا طفل ولا شيخ هرم إلاًّ ولا ذمة، وبان لكل ذي عينين أنهم غير معنيين بالحقوق، وإنما هي أجندات مشبوهة يرمون من ورائها لفرض سلطتهم وتحقيق مصالحهم، التي عجزوا عنها بقوة الحديد والنار، كما كشفت غزة ازدواجية المنظمات الدولية العاملة في القطاع، وكيلها بعشرات المكاييل، وولاءها وارتهانها للعدو وسعيها لمصالحه، وأن حقوق المرأة عند القوم لا تشمل حق الحياة، وإنما هي حقوق العقوق والانحراف والفجور.
سقطت فسلفة الجبت حين كشفت لنا غزة معادن رجالها ونسائها وأطفالها، الذين صنعتهم منظومة أسرية ومجتمعية إسلامية صلبة، وأسستهم إيمانيا وعلميا ومهاريا، وصقلت عقولهم وقلوبهم وأهلتهم لما تبوأوا من منزلة رفيعة ومكانة سامقة في نفس كل مسلم، بل كان إيمانهم وصبرهم وجهادهم وجلادهم، وتسليمهم لأقدار الله عز وجل ملهما لأمم الدنيا، فبدأ الناس يقرأون عنا دون وسائط ويستكشفون قضايانا، ويتدبرون كتابنا العزيز، فكسبنا أجيالا كانت مغيبة، وذرف الصادقون الدموع، وتسابقوا للدخول في دين الله أفواجا، فتعززت ثقتنا في منظومتنا، وذهب دعاة النوع يجرون أذيال الخيبة والخسران.
كان المنافقون من زوار السفارات ووكلاء المنظومة الغربية يسوقون فلسلفة النوع بحاجة المرأة والفتاة إلى الحماية من الرجل المسلم "الذكوري" القاسي المعتدي، فجاءت غزة لتظهر الحقيقة وتبرز عطف وحنان ورقة المسلم، ورحمته بمن يعول، ورسمت صورة ناصعة من نبله وحسن تعامله مع أعدائه قبل أحبائه، وشاهد العالم – كل العالم – تلويحات الوداع والابتسامات الصادقة خلال إطلاق سراح أسرى العدو، ورأوا ذلك الرجل الرقيق الرفيق، متهلل الوجه يشع النور من لحيته الموفرة وهو يقلب حفيدته "روح الروح" في مشهد يلين له الصخر، فبددت هذه المشاهد كل الدعاية والتزوير، وذهبت مليارات التمويل وشراء ذمم العملاء والمنافقين هباءاً.. (فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يقلبون).
وختاما، ما كان لفلسفة النوع أن تسقط في غزة فتقوم لها في أرض شنقيط قائمة، فأبشروا يا حراس الفضيلة وأملوا ما يسركم، ولدعاة النوع أقول بقول المسيري: (يجب أن ننفض عن أنفسنا غبار التبعية الإدراكية، ونبحث عن حلول لمشكلاتنا نولدها من نماذجنا المعرفية ومنظوماتنا القيمية والأخلاقية).