الحجر الذي حرّك المياه الراكدة! / محمد ولد اندح

alt"إن الخمول الذي تعاني منه كرة القدم الموريتانية ليس قدراً محتوماً حتى نستسلم له، ولكنه مرض يحتاج إلى علاج". أحمد ولد يحي في 29 يوليو 2011

خلال بضعة أيام، تحل الذكرى الثانية لحدث بارز كان فيه الرياضيون الموريتانيون على موعد مع يوم فاصل في تاريخ كرة القدم الوطنية، حين انتخبوا في التاسع والعشرين من شهر يوليو عام 2011، رئيساً جديداً لاتحادية كرة القدم من بين مرشحيْن اثنين؛ لأول مرة في تاريخ الانتخابات الكروية في موريتانيا.

بدا الأمر حينها بالنسبة لغير الملمين بالشأن الكروي في البلد أمراً عادياً غير ملفتٍ لكثير من الانتباه، لكنه بالنسبة للمتتبعين عن قرب لهذا الحقل، العارفين جداً بخفاياه، كان حدثاً استثنائياً يؤشر على تحول فارق في مسار اللعبة في البلد؛ حيث لم يكن الرجل المنتخب على رأس الاتحادية رجلاً عادياً كسابقيه الذين اكتفى كل منهم من منصبه بشغل مقعد شاغر دون الإتيان بأي جديد.

كانت كرة القدم الوطنية تعاني في تلك الأيام الحالكة من أسوأ فتراتها ركوداً وتخلفاً؛ فالمنتخب الوطني معاقب قارياً، والبطولة الوطنية مترهلة ضعيفة، والمنشآت الكروية تكاد تختفي لشدة ما تعانيه من صدأ وهجران ونسيان وإهمال، والأسرة الرياضية تنخرها الخلافات والصراعات الجانبية بعيداً عن محيطها.

ومن المفيد هنا، قبل أن نسترسل في حكاية "الحجر الذي حرّك هذه المياه الراكدة" أن نشير؛ إشادة وتنويهاً، إلى الموقف الموفق للدولة الموريتانية آنذاك من تلك الانتخابات؛ حيث كان رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز قد أصدر توجيهاته للوزارة الوصية على اللعبة أن تلتزم الحياد في تلك الانتخابات، وتقف على مسافة واحدة من مرشحيْن وصفهما الرئيس آنئذٍ بالجيديْن.

وهو موقف كان يستحق الكثير من التقدير والإعجاب؛ لأنها المرة الأولى -على حد علمي- التي تترك فيها السلطات العليا في البلد حرية الاختيار للرياضيين لمن يكون رباناً لسفينتهم، بعد أن درجت السلطات في السابق على التدخل السافر في هذا الاختيار وإفراغ معنى الانتخاب من فحواه، إيعازاً بسحب كل الترشيحات لصالح شخص وحيد تختاره الدولة ليكون رئيساً للاتحادية، ثم تـُجرى انتخابات صورية لتزكيته دون منافس.

وحين تخلت الدولة راغبة لا مكرهة عن هذه العادة السيئة، وجد الرياضيون أخيراً الفرصة كاملة لانتخاب الرئيس الذي يريدونه ويرون فيه المنقذ لكرتهم، من وضع مزري تعيشه منذ ميلاد الدولة الموريتانية، فكان أن اختاروا السيد أحمد ولد يحي، إيماناً منهم بخطاب الرجل العارف بخفايا وأمراض اللعبة، واقتناعاً ببرنامجه الطموح الذي مكث أكثر من شهرين يشرح معالمه وكيفية تنفيذه أمام الأسرة الكروية في البلد.

كانت حملة تلك الانتخابات حماسية جداً ومشوقة جداً، لما بدا من تقارب بين المرشحيْن؛ اللذين كان ثانيهما رجل الأعمال الشاب السيد مولاي ولد عباس، وعندما حانت لحظة التصويت حبس الجميع أنفاسهم انتظاراً لفرز النتيجة، التي حملت بشرى لأنصار ولد يحي، حين ما أعلن فوزه في يوم مشهود بقصر المؤتمرات، فذرف الرجل أمام مئات الأشخاص أولى دموع الفرح التي ستصبح علامة للنصر في ما بعدُ.

كان خطاب الرجل، لحظات قليلة بعد إعلانه رئيساً للاتحادية، قوياً مؤثراً، وجامعاً منصفاً، لا إقصاء فيه لمن خالفوه، ولا تمييز إيجابياً لمن وافقوه؛ فقدم نفسه رئيساً لكل الرياضيين، طالباً الدعم من الجميع، وملتمساً مساهمة الكل في العمل الذي ينوي القيام به، مؤكداً قناعته وإيمانه الراسخ بأن شخصاً واحداً، لا يمكن أن ينجز المشروع لوحده، وإنما لابد من تضافر وتكامل جهود الجميع، حتى تنجح المهمة ويتحقق المطلوب.

تجربة الرجل الإدارية في عالم الرياضة كانت ناجحة؛ حيث استطاع في سنوات قليلة أن يُحوّل نادياً ناشئاً في مدينة نواذيبو من مرحلة التكوين وإرهاصاتها إلى مستوى العالمية بكل جدارة، متجاوزاً بذلك عربات كافة الأندية الموريتانية التي رأت النور قبله بعقود، وهي واحدة من نقاط القوة التي زادت الرياضيين رغبة في انتخاب الرجل، لعله يحقق مع الكرة الوطنية نجاحاً يضاهي ذاك الذي أنجزه مع نادي أف سي نواذيبو.

بدأت خطوات الإصلاح والبناء تسير رويداً رويداً، دون تسرع مخلٍ ومن غير تباطؤ مضر، فهُيئ مقر الاتحادية، وأعيد بناء الأكاديمية على أسس ومعايير دولية، وزرعت النجيلات الصناعية للملاعب، وأحكم تنظيم البطولات الوطنية، وقضي على مركزية الكرة في العاصمة نواكشوط، وقطعت العلاقة إلى الأبد مع سياسة الانسحاب التي أرّقت الكرة الموريتانية طويلاً، وبنيت العلاقات القوية مع جميع الاتحادات الإقليمية والقارية والدولية، واستحدثت خلية إعلامية أسست لعلاقة متوازنة مع وسائل الإعلام والصحافة، وبدأ حراك كروي غير مألوف، فاكتملت شروط العمل ليبدأ البحث عن تحقيق الإنجاز.

بموازاة كل ذلك، ظهر الكثير من المنتقدين والمعارضين لهذه السياسة الكروية الجديدة، فبعضهم انتقد التعاقد مع مدرب أجنبي واعتبره مغامرة غير محسوبة العواقب، وبعضهم شكك في جدوائية زيادة عدد الأندية المشاركة في البطولة، وبعضهم عارض إنشاء وحدة تلفزيونية خاصة بالاتحادية، لكن كل ذلك لم يجعل الرجل ينحني، بل أصرّ على مواصلة سياسته وعمله بشجاعة ومثابرة وصبر، مصدعاً بكلمته الشهيرة أن "كرة القدم مثل السيارة التي لابد لها من عجلات ومحرك ووقود وقائد حتى تتحرك"، في إشارة إلى صواب رؤيته بالعمل على كل ناحية دون الإخلال بأخرى، حتى تنجح اللعبة وتسير إلى الأمام.

اليوم، وبعد سنتين، أو تكادان، تثبت رؤية الرجل صوابها، ليحصد الموريتانيون أولى ثمار العمل الذي أنجزه مع فريقه المعاون طوال الفترة الماضية دون أن يمل أو يكل، حتى نجح في الرهان؛ فها قد خرج الموريتانيون موحدين عن بكرة أبيهم (وهذا بحد ذاته إنجاز) فرحين محتفلين بتحقيق أكبر إنجاز في تاريخ الكرة الموريتانية، مؤسساً لمرحلة جديدة بدخول العالمية، كانت مجرد حلم بعيد المنال ظل يراود أبناء هذا البلد، دون أن يتحقق، بل يكاد اليأس يتسرب إلى نفوسهم بأن هيهات أن يتحقق.

ذلكم هو رئيس الاتحادية الذي اتخذ من التواضع سلاحاً في حربه على عقليات الهزيمة والاستسلام التي كانت مستفحلة كلياً في العقل الكروي في هذا البلد، مبدياً ثقة كبيرة في أبناء موريتانيا لاعبين وإداريين وجمهوراً؛ إذ كان يصغي لكل ذي رأي ويستمع إلى كل ذي نقد، فيعمل بالنافع ويترك الضار، حتى جسّد على أرض الواقع المثل القائل إن "من جدّ وجد ومن زرع حصد".

هنيئا لهذا الرجل على عمله، وهنيئاً للأسرة الكروية والشعب الموريتاني على وجوده، وليس ثناؤنا عليه نفاقاً أو تملقاً، ولكنه وفاء واجب لرجل ارتبط اسمه بنقل موريتانيا كروياً من مرحلة التقوقع على الذات والاستسلام للهزائم، إلى رحابة العالم والتطلع إلى الانتصار؛ فعما قريب سوف يرفرف العلم الوطني شامخاً، ويعزف النشيد الوطني الموريتاني مسموعاً في محفل دولي مشهود.

محمد ولد اندح – كاتب صحفي مهتم بالشأن الرياضي

24. يوليو 2013 - 9:50

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا