الصمود الاستثنائي للشعب المصري المقاوم للانقلاب سيعطي نجاحا كبيرا لــ"التجربة الديمقراطية" و"الشرعية السياسية" في العالم العربي فمن الآن فصاعدا ستأخذ هذه المفاهيم معنى جديدا يعطيها حيوية وبريقا يتجاوز بها مصطلح الثورة الذي كان يلاقي قبل محمد البوعزيزي وثورة تونس استهزاء
وسخرية في الشارع العربي ولكن بعد هروب الرئيس ابن اعلى اكتسى هذا المفهوم بريقا ورشاقة وتدفقت فيه حيوية الحياة بعد ما كان أشبه بالمسبة في أغلب الدول العربية جميعا باستثناء الجزائر التي يعيش فيها هذا المفهوم على ذاكرة الجهاد وتكلله باستمرار دماء الشهداء العبقة.
إن 27 سبعة وعشرين يوما من اعتصام الملايين بالشارع وفي ميادين عديدة يعتبر بحق معجزة استثنائية خصوصا وأن قيادة الجيش عملت على احداث انقسام في الشارع واتخذت من تظاهرات 30 يونيو وسيلة لتسويغ "الانقلاب" على الشرعية الانتخابية واستعانت بالخبرات المختلفة ووجدت الوعود السخية بالدعم أمريكيا وصهيونيا.
وروت دماء المصريين الطاهرة تربة الشرعية السياسية المحاصرة وارتقت أرواح مئات الشهداء لتظلل الميادين سكينة ورحمة فثبتت الأقدام وتنزلت على منفذي الانقلاب وحكومتهم رجسا وغضبا تتوالى لعناته كلما أن جريح أو ارتقت روح شهيد جديد.
الانقلاب يواجه الشارع
ويوما بعد يوم يسفر صبح البرادعي وصباحي عن خزي ومهانة متجددة ستضع حدا نهائيا للرجلين في الشارع المصري فهما كانا يرعدان ويزبدان على الرئيس المنتخب منتقدين التلاعب بالديمقراطية ولكن هيمنة السيسي على ما تبقى من نفس ديمقراطي جعل هاذين الدعيين في وضع لا يحسدان عليه فيوما بعد يوم يكسب رهان الشرعية بصموده المتجدد قدرة على افشال الانقلاب وبين الحين والآخر لا يكف السيسي عن إرسال رسائل اختبارية لإمكانية عودة الجيش للسلطة ومن الواضح أن السيسي تلقى وعودا غربية بالاعتراف به حاكما لمصر عبر انتخابات شكلية مزورة تستثني القوى الرئيسية في الشارع وربما تلقى وعودا بالمكافأة على مشروع تجريد الفصائل الإسلامية من مختلف عناصر القوة النوعية التي يملكونها وقد بدأ ذلك فعلا بحظر الصوت الإسلامي في الإعلام الخاص والرسمي وإغلاق القنوات الإسلامية.
لقد جس السيسي نبض الرأي العام لاختبار فكرة تقدم الجيش بمرشح في الانتخابات القادمة عندما قال المتحدث باسم القوات المسلحة لموقع مجلة دير اشبيكل الألمانية بانه لا يوجد مانع من ترشح السيسي في الانتخابات وعاد لينفيها خوفا من استغلالها حاليا وتعزيزا للفكرة وتأكيدا لأهميتها ثم جاءت فكرة طلب التفويض في خطاب رسمي تخلله التأكيد على أن الرجل والجيش هو أصحاب القرار ولا أدل على طموح الرجل السياسي من شغله لمنصب نائب رئيس الحكومة المنبثقة عن خريطة الطريق المعلنة من طرفه هو شخصيا.
تفويض السيسي بالقمع
تآكلت بشكل سريع صورة 30 يونيو 2013 التي حاول الجيش أن تشكل شرعية للانقلاب على مرسي ولذلك فقد جاء خطاب السيسي زوال الأربعاء 24 يوليو2013 للحصول على تفويض من الشعب للقمع ومقاومة الشعب المنتفض في الميادين المختلفة في القاهرة وغيرها واتضح فعلا أن السيسي يعيش ورطة حقيقية إزاء الشارع المصري والحكومة الفاشلة الفاقدة للسند الشعبي فقد صنع 30 يونيو بإنزال أفراد القوات المسلحة وقوات الأمن لميدان التحرير ليشاركوا الشعب التظاهر ولكنه الآن يخاف من إنزالهم مجددا وهو لا يمكن أن يطلق يد ماكينة نظام مبارك بالكامل لأنها يمكن أن تضحي به في معمعان الصراع السياسي واضطراباته الخطيرة في اللحظة الراهنة.
إن اللواء السيسي يريد أن يحول ذكرى بدر أو معركة الفرقان التي فرق الله بها بين الحق والباطل إلى حمام دم من خلال التحام الناس في الشارع وستتدخل الشرطة فقط لحماية ثلة المتظاهرين في التحرير بينما سيرسل السيسي أرتالا من الشرطة والأمن المركزي إلى الأحياء التي تمر منها مظاهرات مناصري الشرعية فتهاجمهم تلك الأرتال بحجة أنها أهالي الحي الرافضين لحكم مرسي والإسلاميين كما تصادف هذه الذكرى إخراج الملك فاروق في 26يوليو1954 خارج مصر.
إن تصريحات السيسي تهدف على تخويف الجماهير من مناصري الشرعية بعدما انكشفت غشاوة انقلاب السيسي وخرج للعراء مولود جبهة الإنقاذ المصرية بقيادة البرادعي وصباحي الذين استمر وحمهما عاما كاملا ثم وضعا مولوديهما التوأمين "تمرد" والانقلاب" بقابلة خليجية فجاء المولود هجينا غير قابل للحياة لأنه حقن في أنابيب تعود فاعليتها لحقبة التسعينيات حيث شتاء النظام الرسمي العربي أيام حيوية الرئيس بن أعلى والأمير نايف بينما المناخ الحالي هو مناخ الربيع الوطني الإسلامي الذي قاد صنعه محمد البواعززي وخالد سعيد وجيلهم ولذلك وجد السيسي نفسه اليوم في ورطة حقيقية بعدما انصاع لمقترحات ضاحي خلفان وأصدقائه من ضباط المخابرات الإسرائيلية وتحدثت مصادر اعلامية قبل يومين عن إخراج السيسي لأفراد من عائلته خارج مصر كمقدمة ربما للهروب من البلاد أو القيام بترتيبات احتياطية لاستلام الأموال الخليجية والأمريكية وتريب امر الإقامة بالخارج.
وسيسجل التاريخ قائد الجيش المصري بعد ارتكابه الخيانة أبرز كذاب مفضوح فقد خرجت بيانات متعددة من شخصيات قال بأنه كلفها بالحوار مع مرسي تكذب ما قاله السيسي في خطابه التحريضي وهذه الشخصيات الشيخ أبي اسحاق الحويني ومرشح الرئاسيات السابق الدكتور محمد سليم العوا.
الإسلاميون في قيادة الديمقراطية
منذ اللحظة الأولى لسقوط نظام مبارك 11/02/2011 كان واضحا أن صراعا قويا سيجري على السلطة في مصر فقد جاء دور التيارات الإسلامية التي صبرت وصابرت لأكثر من خمسين عاما وتحملت في انتظار هذه اللحظة عقودا من الحصار والتصفية والظلم الذي يشهد الجميع بخطورته على واقع ومستقبل البلاد.
ولكن جل التيارات السياسية القومية والليبرالية انخرطت في دعم أنظمة القمع المصرية بدئا بالنظام العسكري في عهد عبد الناصر والسادات الذين تسترا بعباءة اللحاف الوطني وتبرقعا بشيء من شرعية الإنجاز وقدمت هذه التيارات الدعم والمساندة لنظام مبارك الذي رهن البلاد والعباد لــ"حفنة قمح "من المساعدات الأمريكية أممت القرار السياسي لصالح حماية الأمن القومي للدولة الصهيونية والسياسة الأمريكية في المنطقة.
وتخلت جل تلك التيارات عن "مبادئها" لصالح ذلك النظام الذي وضع البلاد في حالة طوارئ دائمة استمرت لأكثر من ثلاثين عاما عرف القطر المصري خلالها تخلفا منقطع النظير في كافة مجالات التنمية السياسية والاقتصادية وسيطر أقل من عشرين من رجال الأعمال النافذين على الشرايين الأساسية للاقتصاد الوطني المصري الذي كان من الممكن أن يكون من أقوى الاقتصاديات في المنطقة ولكن هيمنة مفسدي السلطة على مفاصل الدولة وبروز تحالف قوي بين التجارة والإمارة حمل في طياته مشروع التوريث الذي كان بالنسبة لمبارك خير ختام مسك لفترة تميزت بغياب دور مصر الإقليمي والدولي إذا ما استثنينا التجاوب السريع مع مشاريع "الشرق أوسطية" المؤطرة إسرائيليا.
الإسلاميون صمدوا خلال هذه الفترة الطويلة وتميزوا بالمشاركة القوية في الحياة الديمقراطية رغم الحصار السياسي القوي فقد دخل الإخوان المسلمون البرلمان عبر نافذة الترشح المستقل لأكثر من ثماني مرات منذ العام 1987 بينما انخرطت تيارات السلفية الجهادية في مشروعها المقاوم لهذا النظام على طريقتها الخاصة غير الديمقراطية.
وعندما جاءت ثورة 25يناير2011 كان الإسلاميون أهم مكون في الشارع المصري وطيلة استحقاقات التالية للثورة خلال الفترة الانتقالية 2011/2012 والتي أدارها المجلس العسكري تصدرت التيارات الإسلامية الفوز في خمسة استحقاقات انتخابية متتالية بفارق كبير مع منافسيهم من اليسار والليبرالية المتوحشة.
وجاءت لحظة الرئاسيات الفارقة فاضطر الإسلاميون وخصوصا الإخوان إلى منع عودة النظام عبر صناديق الاقتراع وعندما جرى الاقتراع ما كادت الدولة العميقة تتجرع قبول اعلان رئيس اسلامي للبلاد وطيلة السنة الوحيدة لحكم الرئيس مرسي لم تهدأ التيارات اليسارية والليبرالية مطالبة بإنهاء حكم الإسلاميين ولم يخف الأمريكيون وإسرائيل خوفهم من نجاح مرسي الذي رفض الانصياع للشروط الأمريكية سياسيا واقتصاديا واتجه لعلاج مشكلات البلاد بشكل مستقل من المؤكد أن بعض الأخطاء الكبيرة وقعت إثناءه كما أعلن الرئيس ذاته ولكنه كان يتجه على الأقل للتأسيس لوضع جديد يسمح للبلاد بالاعتماد على ذاتها وتحقيق استقلال اقتصادي يمكنها من الاعتماد على الذات دون الارتهان للدعم الخليجي أو الأمريكي.
وتشير العديد من المؤشرات إلى أن الرجل حقق نجاحا جزئيا واثقا خصوصا فيما يتعلق بإنتاج القمح وتموين الحياة المعاشية رغم قصر الفترة وحجم العوائق التي أقيمت أمام حكم الرجل وخلق معارضوه أزمة السولار التي حلت بكبسة زر في اليوم التالي للانقلاب.
وطيلة حكم مرسي تكرست الحريات السياسية والإعلامية أفضل بكثير من حالة الانتشاء التي تلت سقوط نظام مبارك وانتهت حالة خنق الحريات وحتى في الحالات التي جرى فيها تطاول على شخص الرئيس بشكل فاضح كان النظام يتغاضى ولم يتجاوز مرسي التحذير من غضبة الحليم مع أنه كان يمكنه غير ذلك.
وما إن أسقط قائد الجيش المصري حكم الرئيس المنتخب حتى بدأت حملة اعلامية مليئة بالكراهية والدعاية التي تجاوزت سب "حكم الإسلاميين" إلى سب الإسلام ذاته وبدأت نعوت العنصرية وثقافة التميز العفنة وانحط الإعلام المصري إلى مستوى خفيض من الرداءة لم يصل إليه من قبل ذكرني بحملات صحفية كانت تشنها مجلة روز اليوسف على الإسلاميين أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات ولم أكن أتصور أن انسانا في العصر الحديث ينحدر إليه فضلا عن صحفي تفترض فيه الثقافة وتعود سماع أنماط متعددة من الرأي في الحياة الاجتماعية المعاصرة المتنوعة بطبعها.
السناريوهات المستقبلية
من الصعوبة بمكان استشراف مستقبل تطورات الوضع في مصر غير أنه من المؤكد أن العملية السياسية قد وصلت لطريق مسدود نظرا لتحكم العسكريين في تحديد مسار العملية السياسية على أساس تقويض أركان العملية الديمقراطية وبات الانقلاب يهدد الاستقرار السياسي والسلم الأهلي في البلاد ويشكل خطاب السيسي الأخير نموذجا لحجم الالتباس الواقع في المشهد ويمكن تلمس الخيارات التالية:
السناريو الأول: أن يتراجع السيسي عن انقلابه ويعيد الرئيس مرسي للقيام بتطبيق ذات الخريطة التي أعلنها مرسي وبدأ السيسي تطبيقها مستثنيا التيار الإسلامي خدمة للأجندة التي تحالف معها اقليميا ودوليا وهذا ما أكد السيسي رفضه بقوله في خطابه الأربعاء:" إنه لن يتراجع عن خريطة طريق القوات المسلحة ولو للحظة" .
السيناريو الثاني : أن ينجح السيسي في فض اعتصامات رابعة والنهضة والمدن الداخلية وهذا ربما ما يتردد صداه في خطاب الرجل المطالب باستمرار السند والتفويض الشعبي لمقاومة الإرهاب الذي هو حسب المفهوم من خطاب الرجل "التحالف المدافع عن الشرعية" الذي يشكل الإسلاميون نواته الصلبة. وفض الاعتصامات يبقى ممكنا ولكنه صعب ويتطلب إزهاق أرواح الآلاف من المعتصمين على الأقل وهو من الناحية الأخلاقية سيشكل وصمة عار في جبين الجيش وربما تصحبه هزات ارتدادية مكلفة سواء على مستوى تغذيته لتيارات الجهادية أو تمرد وحدات من الجيش.
السيناريو الثالث: أن يحدث انقلاب من داخل المجلس العسكري ينحي السيسي ويفتح المجال لمرحلة انتقالية جديدة وربما يعيد مرسي من الناحية الشكلية ويفتح المجال لتوافق وطني حقيقي ويؤسس لتغيير دستوري يفتح المجال لمزيد من توزيع السلطة بعيدا عن النظام الرئاسي الصلب الذي يدعوا لمزيد من التأزيم في ظل وضع مصري شديد التعقيد من حيث تنوع التعددية الفكرية والسياسية. ويؤيد هذه النظرة أن النخبة بجميع توجهاتها سواء كانت علمانية واسلامية في مصر باتت أكثر نضجا وقبولا لمزيد من توزيع السلطة بين الفرقاء المتنازعين دون أن يسيطر أحد الفرقاء على الآخر بينما يتاح للجميع أن يرى نفسه في المرآة الوطنية بقدر معين لا يجعله يطغى على الآخرين أو يهددهم بالابتلاع كما هو الحال الآن.
السناريو الرابع: أن يتمكن تحالف الشرعية من تصعيد اعتصاماته لمستوى العصيان المدني المطعم بالثورة المسلحة التي تهدف إلى تفكيك سيطرة الجيش على الوضع والإطاحة بحكم العسكر ويمنع من هذا السيناريو أن التيار الإسلامي السياسي تعود الوداعة منذ عقود ورهانه السلمي أقوى من طموحه العسكري.
السيناريو الخامس: أن يتعمق الانقسام ويزداد حمام الدم وتستحكم الأزمة دون الوصول إلى حل سياسي وهو ما سيدفع الوضع المصري لحالة شبيهة بما حدث في الجزائر خلال عشرية الدماء 1992-2003 والوضع الجاري حاليا في سوريا لا قدر الله ويدفع الدعم الخليجي لمختلف الأطراف لمثل هذا السيناريو المخيف لأن نتائجه تخدم استراتيجية دول الخليج التي تلخصها مقولة الملك عبد العزيز آل سعود :"إن البلاد لا يصلحها غير الأمن والسكون". و"صناعة السكون" تحدث من خلال أخذ العبرة مما يحدث وتنقله الفضائيات لشعوب الخليج وهي "ساكنة" تنظر لشلال الدماء فتعتصم بالملكيات الحاكمة وتتمسح بأعتابها للنجاة من المشهد المخيف. والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.